إنه هنا بجانب بوابة الجسر العميق، حيث المركبات الملونة تمطر فوهة الجسر، ينسل من رافعته العتيدة، يرسل نصف جسده العلوي للداخل ويبسط ذراعه ليلتقط كيس الخيش الذي اعتاد أن يضعه فوق رأسه تلافيا للهيب الشمس.. يصفق الباب، وعلى بعد خطوتين.. حيث الاطار الملوح.. يسند ظهره مفترشا نعليه الجافين ويطرق ساكنا فيبدو للعابرين ككائن خرافي يطل من خيمة صغيرة. الشمس هنا لا ترحم، تحكم أشعتها بشدة حول كل شيء.. فتتفجر الأجساد ينابيع ناضحة، تبحلق في الوجوه بأقصى أشعتها محيلة الثياب اليابسة الى شلالات مالحة، والسحنات الطرية الى سحب رمادية تفضح تضاريسها بشكل لافت.. أبو ليلى تحدى كل ذلك، شوته الشمس حتى نضج العظم.. نزف جسده حتى تخشب، وتفتقت الدمامل في مؤخرته التي ما عادت موجودة اصلا بل خلفت دائرة عتيقة طفحت فوق ثوبه. (أبا ليلى.. أحدهم يحتاج لنجده) صاح حارس البوابة فور اغلاقه سماعة الهاتف. انتصب الشبح الرابض سريعا.. أدار العجلات.. وغاص في بطن الجسر ليقف عند سيارة فغرت غطاءها الأمامي وبجانبها وجوه يابسة تنتظر الفرج.. لحظات وعاد لبوابة الجسر حيث كان وكما كان تماما عدا بضع لطخات حديثة متناثرة على ملابسه، وانتفاخ طفيف في جيب بنطاله الأيمن. قد يحدث هذا المشهد مرة في اليوم، وربما يتكرر مرارا حتى لا يكاد يملك وقتا ليستريح فيه، أو قد لا يحدث أبدا لعدة ايام، وأحيانا يحدث بمجرد أن يرفع أبو ليلى يديه نحو السماء وصورة (ليلى) بنت الخامسة عشرة تتجسد أمامه.. كل ذلك مرهون بما يجري فوق صهوة الجسر الكبير. انها وحيدة أبويها، ديدنها ذرع الطريق المؤدية للمدرسة الحكومية خمسة أيام في الاسبوع، يتعفف فضولها من النظر خارج هذا الخط، بشعور أو بلا شعور هي تطبق مقولة يكررها والدها من يتمعن في الأدنى يسقط على وجهه.. ومن يحملق في الأعلى تنكسر رقبته، ليلى لا تنظر سوى لنفسها.. لا تشعر الا بسلوك (ليلى) ولا ترى سوى فستانها وحذائها وقصة شعرها ولاتعلم ان كانت نبيلة زرقاء الدم، أو تصنف ضمن طبقة الرق. قدر لها أن تجهل العديد من الامور مثل الفقر والجوع والعري والحرمان واليتم وكذلك الثراء والبذخ والموضة والتخمة والشهرة. يحدث أن يتمزق فستانها المدرسي في الوقت الذي ينسلخ اطار سيارة عابرة للجسر، وأن تحتاج لحذاء جديد فيجمح مقود باتجاه سور الجسر ليعلق به، وكم من حادث شنيع وقع أثناء نيتها الاقدام على قرار يكلف مالا.. وتنهمك وسط دوامة الحياة في حين تولول الشمس على جسد والدها المقيم عند بوابة الجسر. (.. هذا المشروع ضروري لاجتياز المادة في نهاية السنة). رددت المعلمة وهي تخط الأروقة في الفصل برتابة آلية، وأضافت: على كل طالبة أن تحضر مواد وادوات كافية وتبذل ما في وسعها لظهور مشروعها بأكمل صورة، أما التهاون فليس له مكان في فصلي. لم تعتد ليلى على انشطة بهذا الحجم، ولم يسبق لها ان خاضت مشروعا مدرسيا بهذه الكلفة، كان حديث المعلمة يشق أذنها بشراسة، وتتصاعد من رأسها العديد من علامات الاستفهام. خرجت من المدرسة وقد عشعشت المحاضرة في صدرها ككابوس ثقيل لازمها طوال الطريق.. فتحت باب منزلها. رن الهاتف.. رفعه حارس البوابة: (أبا ليلى.. أحدهم يحتاج لنجدة..).