يدهكون الرصيف، الشمس لا تحجبها السحب، ولا يطفئها جسد القمر. مبنى المحكمة صدره كبير وواسع، بوابته تلقف مَن يقدمون.. لم يأتِ إلى هنا من قبل. في البدء ظن أن ضربة شمس قد سلقت ما تحت جمجمته، فجرّدتهم من لحومهم، لكنه لا يشعر بدوار، أو يسمع بطرق متصاعد. لا يرتدي نظارة سميكة الزجاج، وليس في منامه، يتخشّب أمام هياكل عظمية بلا ظلال. هياكل تقتعد الانتظار، متجاورة ومتكئة، يسند فقرات ظهورها سور المحكمة. تراوده فكرة السؤال، فتنهره صدمة الرد بالجنون.. يسكت، همّ أن يتراجع، قذف بنظرة سقطت على الهيكل الكبير، ملؤها الحيرة والارتعاد، رآه يدعوه مستغيثًا، وحده مَن كان يحدّق بين الأجساد، يتحسّس كساء عظمه، وجوه لاهثة، مشؤومة، ومكسورة عيونها، همّها يتلبّسها، في جوفه توقد نار العطش، شعر برغبة الهيكل في النهوض، وحدس أنه وجل أمام تناثر فقراته. من داخل بوابة المحكمة عبر البهو الكبير كان يبدو كلص خلف الأشجار، لص بريء ينازع سرقة ما *** منه. رأى عيون الهياكل قبل أن تأكلها دابة الأرض، رأى لحومها وشحومها، شعورها وأظافرها. - مثلنا، يدمعون! يفرك عينيه، الشمس تنازع الأشجار ظلالها، يعبر بعض شعاعها ليحرق اسمرار بشرته، أوراق في الهواء، وأوراق في ملفات خضراء، وفي صندوق النفايات.. أوراق، عبر الأقدام العابرة تغيب الهياكل.. تظهر الهياكل.. تغيب. - مَن يعبأ بهم غيري؟ تعود نفسه للمراودة، وتعود فتنهره: يا مجنون! تتمدد الظلال نحو الشرق، متقهقرًا.. يلاحقها فتنهره المنبهات، رصيف المحكمة يتنفس، تظهر الهياكل كاملة.. مستندة. عبر بوابة المحكمة عباءات سوداء وبيضاء، مطرزة بالذهب حوافها، لا تلامس الأرض ولا تطير، جوفاء بلا أجساد، تمتطي أحصنتها وتخرج. يغلق باب المحكمة، يجمع تناثر أوراقه، وقبل أن ينهزم يعود لتأمل الهياكل، ها هي ظلالها تخرج متتالية، تسير عبر السور، ملفات سوداء تحملها، تتوحد مع هياكلها في هدوء... وتنتظر!