في أعقاب انهيار النظام الشمولي الحاكم واحتلال العراق من قبل قوات التحالف الأميركي البريطاني تكشَّفَ العديد من مظاهر ونتائج عمليات القمع العنيف التي قام بها النظام ضد معارضيه ومخالفيه السياسيين وحتى ضد مواطنين أبرياء لا علاقة لهم بالسياسة. وقد شملت تلك الحالة المرعبة العشرات إن لم يكن المئات من المواطنين العرب من مصر ولبنان وسوريا وبعض أقطار المغرب العربي والخليج. لقد تم الإعلان عن قوائم بأسماء الآلاف من ضحايا القمع وعمليات الإعدام الجماعي، كما اكتشفت عشرات المقابر الجماعية، ويتم الاحتفاظ سرا بمواقع أكثر من مئة وخمسين مقبرة أخرى كما صرح بذلك حزب المجلس الأعلى للثورة الإسلامية الذي يرى أن الظروف الحالية غير مناسبة للكشف عن تلك المقابر ورصد محتوياتها وتوثيق معطياتها بشكل سليم علميا وقانونيا، وهذه وجهة نظر صائبة ترجحها تفاصيل الفوضى العارمة التي اندلعت عندما اكتشفت المقابر الجماعية الأخرى فعلا ومن أكبرها المقبرة الجماعية في منطقة المحاويل التابعة لمحافظة الحلة بابل. وقد أثارت هذه الأحداث والكشوفات نقاشات وسجالات بين الناس العاديين وخاصة من ذوي الضحايا والمتضررين كما بين أفراد النخبة من سياسيين ومثقفين وعلماء ورجال دين في العراق وخارجه. وقد انصب النقاش على محور يمكن تلخيصه بالتساؤل التالي: هل يمكن اعتبار مطلب تحقيق العدالة عبر القضاء الذي سيقرر نوع العقاب بحق المجرمين الذين أمروا ونفذوا تلك الممارسات القمعية الدموية بحق العراقيين طوال أكثر من أربعة عقود مطلبا ثأريا ينطوي على نزعة انتقامية مرفوضة؟ بعبارة أكثر ابتسارا ووضوحا، هل يعتبر تحقيق العدالة أمرا ثأريا وانتقاما من المهزومين، أم إن الأمرين (العدالة والانتقام الثأري) محمولان مختلفان بل متناقضان في العمق؟ ويمكن لنا أن نأخذ فكرة واضحة عن مقدار التشنج والانفعال اللذين يلفان هذا الموضوع حين نعلم أن الأمر بلغ بقاض عراقي معارض ويعيش في المنفى ومحسوب على صفوف اليسار العراقي كتب مقالة يتساءل فيها بنبرة تحريضية واضحة عمن سيقطع أذن أحد رجال النظام هو عبد حمود الذي يقال بأنه هو من اقترح على صدام حسين تلك العقوبة البدنية الهمجية التي نفذت بحق المئات من العراقيين (مقالة بهذا المعنى نشرت في جريدة الزمان 21/6/2003 بقلم القاضي زهير كاظم عبود)، فإذا كان القاضي التقدمي يفكر على هذا المنوال الثأري فعلى أي منوال سيفكر الفلاح العراقي البسيط والمفجوع بإعدام أربعة من أولاده؟ القارئ للتاريخ البشري بعقلية علمية وليست خرافية يمكنه التمييز بين الثأر كنتاج مجتمعي في مرحلة تاريخية بدائية ووحشية سادتها الفوضى وانعدام النظام حتى صار الثأر كابحا موضوعيا لأعمال القتل والممارسات المتوحشة الأخرى وبيّنه كظاهرة سلبية ورجعية تاريخيا تستعيض عن العقل بالغريزة والانفعال. إن الثأر يتحول إلى فعل حماية في ظروف غياب القانون والمؤسسات والتنظيم العقلاني للحياة المجتمعية لأنه يجعل القاتل والمعتدي يفكر مرتين وأكثر قبل أن يرتكب أفعاله ويحسب حساب الانتقام من ذوي القتيل. ومع تطور البشرية الحثيث وتأنسن المجتمع البشري وسيطرة الدولة الحديثة، تحول الثأر إلى ممارسة تحيل إلى نزعة انتقامية خالية تماما من أية إيجابيات بل هي تؤجج النار كمقدمة لكوارث قادمة. وإذا كان الثأر المشفوع بالنزعة الانتقامية قد فقد مبرراته الوظيفية في العصر الحديث وأصبحت دساتير العديد من الدول المتطورة والديموقراطية تجرم الدعوة إلى الثأر والانتقام فإن ذلك تساوق مع تعزيز الجانب القانوني المتعلق بتحقيق أقصى قدر ممكن من العدالة والدفاع عن الإنسان الضحية. وبالتدقيق في الحالة العراقية المشدودة إلى أرضية مجتمعية ما زالت تفعل فيها الأعراف والتقاليد القبلية فعلها وقد عاث فيها فسادا نمط الحكم الاستبدادي لأربعة عقود، يمكن لنا أن نميز بين أمرين: الأول هو أن موضوع طلب العدالة والإنصاف القضائي لضحايا عمليات القمع الحكومي لم يعد قضية سياسية في المقام الأول قد يحاول البعض تحويلها إلى جسر نفعي لتحقيق أهداف معينة ذات طبيعة ذاتية وحزبية، بل إن هذا الموضوع هو قضية قانونية وقضائية وأخلاقية تهم بالدرجة الأولى الضحايا وذويهم. ومن ثم فهي شأن مجتمعي وتاريخي تهم المجتمع ككل وتؤثر على مستقبله. وبهذا المعنى فإن فقدان التقاليد الديموقراطية في الدولة العراقية وانعدام تراكم موضوعي في ميدان القضاء المستقل والنزيه بسبب سيطرة نمط الحكم الاستبدادي تجعل من الصائب والذي لا مندوحة منه الاستعانة بالقدرات والكفاءات والتجارب العربية والعالمية والمؤسسات الإنسانية المستقلة وغير الحكومية مع ترصين الأداء القضائي العراقي وترسيخ جهازه الجديد المحكوم بآليات الاستقلال والشفافية والنزاهة. الأمر الثاني يتعلق بالجانب الإنساني والمجتمعي لهذا الملف الحساس والشائك حيث يقاس النجاح في عملية تحقيق العدالة ليس فقط بإنصاف المظلومين والمقموعين من أحياء وموتى ومشوهين ومعاقين وتطبيق القانون على جلاديهم والتعويض على الضحايا بفعل ممارسات القمع، بل يقاس النجاح أيضا بعدم إيقاع الظلم بالطرف الآخر وإخضاعه لعملية انتقامية هدفها تجريده من حقوقه الدستورية والاجتماعية. إن من الخيالي والمبالغة أن نعتقد أن الأمور سوف تسير على أحسن ما يرام وأن تشجنات وردود أفعال لن تحدث، ولكن من الواقعي أن يبدأ ذوو الاختصاص والمثقفون بتمهيد المسرح وفتح النقاشات الشفافة والموضوعية بغية تحقيق هدفين، الأول: تنفيس الاحتقان الناجم عن الإحساس بالظلم الفادح لدى الضحايا وذويهم، وثانيا ترشيد الأداء العملي والنظري في ميدان القضاء المستقل الذي سيتولى القيام بمهامه لتصفية هذا الملف. كما يمكن طرح مجموعة من التصورات والاقتراحات التي تستشرف موضوع ضحايا القمع في العراق وتحاول تفسيرها وتسهيل استيعابها وحسمها ومن تلك الاقتراحات والتصورات يمكن الكلام عن: مكافحة النزعات الانتقامية والثأرية البدائية بدأب وصبر عن طريق برامج تربوية وتدريسية وإعلامية قائمة على أسس علمية ومعاصرة والتأسيس أو اجتراح صيغة مشابهة لتجربة لجنة الحقيقة والمصالحة التي قامت بتصفية ملفات القمع العنصري في جنوب أفريقيا وقادها الأب توتو. التفريق بين الأشخاص المدانين بالممارسات القمعية وأعمال الاضطهاد من رجال النظام المنهار وبين أسرهم وذويهم وإدانة أي استهداف لتلك الأسر تحقيقا للمعنى النبيل الذي تضمنته الآية القرآنية التي تقول ولا تزر وازرة وزر أخرى. حسم موضوع العقوبة القصوى في قانون العقوبات العراقي أي عقوبة الإعدام وطرح اقتراح إلغاء تلك العقوبة واستبدالها بعقوبة السجن المؤبد على الاستفتاء الشعبي لاعتبارات تاريخية كثيرة جعلت الشعب العراقي واحدا من أكثر شعوب العالم تأذيا وتضررا من تلك العقوبة. الحيلولة دون تسييس ملف ضحايا القمع السياسي الطويل في العراق واعتبار أي محاولة من هذا القبيل مسيئة لذكرى الشهداء وذويهم. تدقيق ومناقشة مضمون المبدأ غير الرسمي الذي رفعه وطبقه مؤسس الجمهورية العراقية عبد الكريم قاسم والذي يقول (الرحمة فوق العدل)، فلم يمر العراق في مرحلة من تاريخه يكون فيها أحوج إلى الرحمة وإلى مثل هذا الشعار كهذه المرحلة التي نعيشها اليوم. اعتبار كارثة ومخلفات القمع الاستبدادي مأساة وطنية وإنسانية إضافة إلى كونها مأساة أسرية وشخصية لذوي الضحايا والعمل على ترسيخ هذا البعد في الذاكرة الجماعية. إحياء ذكرى ضحايا القمع عن طريق إقامة نصب فني أو مجموعة أنصاب وتخصيص يوم للاحتفال بذكراهم يكون يوما للحِداد العام ويمكن أن يصادف الثامن من شهر شباط الذي وقع فيه الانقلاب العسكري الدموي سنة 1963 والذي أوصل النظام الاستبدادي إلى الحكم في العراق. * كاتب عراقي عن السفيراللبنانية