معادلة غريبة جدا هذه التي تحدث في بعض دول العالم وبالاخص الثالث منه.. اذ في الوقت الذي بدأ فيه عهد الوظيفة بالانحسار بسبب احلال الآلات الذكية مكان البشر وقيامها بمهام وظيفية لاحدود لها مجبرة الملايين من الموظفين من ذوي الياقات الزرقاء والبيضاء الى الانضمام الى صفوف العاطلين او حتى الى طالبي الاعانات، في ظل هذه التحولات في عصر الوظيفة، نجد في المقابل ان دولا من خلال منظوماتها التعليمية والتدريبية تسعى لتزويد مخرجاتها بالمهارات ليكون التوجه نقيض الاتجاهات العالمية نحو عولمة الوظيفة. لقد كان التركيز في حقب طويلة من الزمن يدور حول مفهوم العمل بطبيعته التقليدية بدءا من الوظائف البدائية في العصور التاريخية وانتهاء بالعامل على خطوط الانتاج في القرن الماضي على احدث التقنيات في ذلك العصر. اما في العصر الذي نعيشه الان فهناك اقصاء منظم للعمل البشري من العملية الانتاجية ولعله يحدث لاول مرة في العالم بسبب الاجيال الجديدة المتعاقبة من التقنيات المتطورة في كافة المجالات والتي تستطيع ان تؤدي مهام تتجاوز متطلبات الوظيفة.. اذا فالعمليات الانتاجية يبدو انها في طريقها الى الانتاج المؤتمت ذي التقنية العالية جدا لتوفير تجارة عالمية مزدهرة ووفرة اقتصادية لم يسبق لها مثيل بفضل هذا التطور التقني. وتطالعنا التقارير بشكل دوري عن استغناء كبرى الشركات العالمية عن العديد من موظفيها بل يحلم الكثير من هؤلاء الموظفين بالابقاء على وظائفهم ليوم اخر وهناك توجس كبير يحوم حول كبريات الشركات العالمية وبلاشك فان مثل هذا الاستغناء قد يتسبب في عدم استقرار الكثير من المجتمعات ففي أمريكا يصل عدد الوظائف التي تم الاستغناء عنها من قبل الشركات ما يقارب مليوني وظيفة سنويا اضافة الى ما تقوم به المؤسسات العالمية خاصة المصرفية منها على اعادة هياكلها العملية وتحديث خصائصها وآلياتها والذي ينتج عنه الاستغناء عن العديد من الموظفين بهذه المؤسسات والامثلة كثيرة على ذلك والمصادر تزدحم بالارقام والاحصائيات عن ذلك. وليت الامر مقتصر على الوظائف المرتفعة الاجر لنقول ان البطالة وقتية ولكنها وصلت الى كافة المستويات الوظيفية ويندرج ذلك على كافة دول العالم ولكن بتركيز اكثر على دول العالم المتقدم اذ تتنامى نسب البطالة بسبب دور التقنية لان المؤسسات الكبيرة خاصة تلك عابرة القارات تدخل احدث التقنيات على عملياتها في كافة ارجاء العالم لتستغني عن اعداد كبيرة من موظفيها ممن لا يستطيعون منافسة كفاءة التكلفة والجودة واتقان الاداء التي تنجزها التقنيات الحديثة. لقد بدأت المؤسسات في كافة دول العالم بانتهاج سياسات جديدة للتوظيف اذ بدأ الحديث عن التقشف الوظيفي والانتاج المتقشف واعادة الهيكلة والجودة الشاملة والهندسة القيمية وغيرها من المفاهيم التي لم تكن تظهر لولا الحاجة الاقتصادية الماسة للمؤسسات الكبيرة من اجل الرفع من انتاجيتها والتقليل من مصاريفها وزيادة ارباحها.. ونتيجة لذلك بدأ الشعور بالتملل واليأس بين فئة الشباب حول مستقبلهم الوظيفي اما العاملون الكبار في السن فقد استسلموا للامر الواقع وقد حوصروا بين ماض مزدهر ومستقبل غامض ولعلنا امام بعض الظواهر الخطيرة التي لم يأبه لها المجتمع الدولي وهي ان الحياة بدأت تشهد تحولات جذرية لم نكن نشهدها من قبل فماذا اعددنا لها؟ أصبح من المسلمات في عصرنا الحاضر ان متطلبات الوظيفة التقليدية بدأت تتلاشى لتحل محلها متطلبات الوظيفة المتعولمة اذ لم تعد الحاجة في وقتنا الراهن لاكساب الشباب مهارات يدوية ولا حتى غير يدوية بل نحن بحاجة الى تزويد الشباب بمهارات معرفية اذ ان التقنيات الحديثة كما اسلفنا لم تعد بحاجة الى مهارات تشغيل بقدر ماهي بحاجة الى مهارات في التعامل مع هذه التقنيات والتي تستند اساسا على الجانب المعرفي استعدادا لاعداد الشباب نحو مفهوم العامل المعرفي K-Workers لتتماشى بذلك مع الاقتصاد القائم على المعرفة K-Economy ولقد اخذت الدول الاسيوية بهذا التوجه في عمليات التعليم والتدريب استعدادا لحقبة مابعد الوظيفة. ولكن احلال التقنيات الحديثة محل الوظيفة التقليدية ليس مفهوما مطلقا اذ انه من غير الممكن الاعتماد كليا على التقنيات الحديثة والاستغناء عن العنصر البشري ولكن كما ذكرنا سيتم الاستغناء عن اعداد كبيرة بل ومن المتوقع ان تتزايد اعداد البطالة بين الشباب والراغبين بالعمل في العالم. اذا فالعالم بأسره مقبل على مشكلة وظيفية جسيمة تتمثل في زيادة اعداد طالبي العمل مقابل انحسار في الفرص الوظيفية الناتجة عن استخدام التقنيات الحديثة. اذا ينبغي ان يصاحب ذلك ثورة تعليمية وتدريبية لتعليم وتدريب الشباب على متطلبات الوظيفة في عصرنا الحاضر للتعامل مع التقنيات الحديثة ليس من حيث التشغيل فحسب وانما التطوير ايضا وكذلك الالمام بتقنيات المعلومات ولغة التعامل مع هذه التقنيات والالمام بأصول التعامل مع الحاسب الآلي وتطبيقاته. ان الاعداد لمرحلة مابعد الوظيفة لن يقضي على المشكلة تماما ولكن اقلها سيساعد على التقليل من اخطارها حيث ان التقنيات الحديثة في عصر الانتاج المؤتمت لم تعد بحاجة الى مهارت يدوية اذ لم يعد هناك ما يتطلب ذلك في هذه التقنيات انما ما يتطلبه المهارات المعرفية التي ينبغي ان ترقى مناهج التعليم والتدريب في العالم الثالث اليها لتخرج بها عن الانعزالية والتقليدية المحلية التي جعلت الكثير من المؤسسات التعليمية والتدريبية في العالم النامي تسير بالاتجاه المعاكس لمتطلبات الوظيفة المتعولمة وكأن سوق العمل لديه ثابت لا يطرأ عليه التغير.