جاسم الصحيح طفل شب دفعة واحدة شعرياً فلامس ناصية القمر . وسرعان ما تحول شعره إلى تنهيدة بحجم البحر وبالفعل .. هذا الشاعر / الظاهرة أبحر في صياغة الكلمة وهندستها بشكل جديد أخذ من تراثه العربي العريق عراقة الكلمة وفصاحة المفردات وبلاغة العبارة في حوار لفظي حديث يحمل بصمته وتضاريس أحلامه ورؤاه الميتافيزيقية الموغلة في العمق أبحر في قارب شعره .. بل في (يخت) شعره الخرافي متكئا في إحدى مقصوراته الأسطورية ماسكا دفته الخيالية عاكفاً على ترتيب فوضى الموج محاولا بكميائية نسمع بها لأول مرة تجتهد في تقليل ملوحة هذا البحر حتى عشقته الطيور واختبأت في كلماته هذا هو الشاعر المتميز الفحل في عطائه، الرقيق في عباراته العميق في رؤاه وتطلعاته . وهذا العمل آخر أعمال تمخضت عنها عبقرية الصحيح تحمل عنوان (نحيب الأبجدية) بين يدي قرأتها مرة ومرات .. فلم أجده كالأعمال التي سبقته من شعراء العربية . وجدته محشواً بالتساؤلات المرة عن الأرض والموت والعمر والمرض والروح الحكمة والفشل .. وقد وجدت خلال وهج هذه الأشعار المشتعلة بعض الإجابات الحلوة .. ولكنها حلاوة خارجية يكمن العلقم داخلها بمرارة الحقيقة نفسها ... ونادراً ما يكتب الشاعر عبارات نثرية في الصفحات الأولى من ديوانة ... إلا أن شاعرنا انتهج هذا النهج فأتحفنا بثماني صفحات من نثره الرائع . فأخذنا بطريقة صوفية فلسفية شاعرية إلى دهاليز عمره وقريته وعالمه المغلق المفتوح يقول في أحد سطورها : (قالت لنا الغربة : إن الكلمة دابة رابضة في المعجم كلما استثارها الشعر إلى نفرة في سبيله نشت على طعنات مهماز المجاز لعلها تدرك الفتح بعد انهيار أسوار الحقيقة ) . وهذا ما فعله الصحيح في نحيب أبجدية أسمعه يقول في عفوية نقية بيضاء كعالم الطفولة البرىء: واليأس أقدم سائح، يتبضع الأحلام في روحي بأرخص ما يرام .. ما بالها تتصارع الأقوات في عمري .. وأمسي عابثا بغدي فإن شئت التفت للوراء خشيت يطعنه الأمام .. قلت إن هذا الديوان محشو بالتساؤلات الحبلى بهموم الإنسان المعاصر مفلسفاً برزخية التقاء الروح والمادة في هذا الجسد . وكم هي أدوات الاستفهام في العربية !! (متى، كيف، أين، من ، لماذا ، هل، ....) ولكن شاعرية شاعرنا امتطى من هذه الأدوات في غالب تساؤلاته حرف (هل) هذا الحرف المتموج في معناه وفي مقتضاه من المعاني والأهداف (هل) هذا الحرف الغريب في تلونه، واختيارت دخوله في الجمل الاستفهامية . هذا الحرف الذي يعده النحاه من الحروف الهوامل والذي يعنى فيما يعنى استفهما عن حقيقة الخبر، كما أنه يعنى (قد) في بعض حالاته و(قد) إذا دخلت على الفعل الماضي افادت التأكيد .. وإذا دخلت على الفعل المضارع أفادت التشكيك وهذا ما ملأ مساحات الخيال وآفاق الرؤى عند شاعرنا عندما زج بها أي (هل) في كثير من شطورة الشعرية (هل) هذا الحرف اللطيف في سماعه والخفيف في لفظة والجميل في شكله. والأليف في جلسته بين إخوانه وأخواته من أدوات الاستفهام كشف لنا الصحيح عن نارية هذا الحرف . وعن نوره وعن شراسته ومشاكسته. فأحيانا نجد الشاعر يركب هذا الحرف فيتحول من حرف إلى حصان جامح لا يقر له قرار وأحيانا يكون خير وسيلة توصله إلى هدفه في يسره وتؤدة . وأحيانا يقذف من (هائه) هالات بركانية داكنة ومن (لامه) لهباً متوهجاً بالنور والنار وأحيانا يتحول هذا الحرف إلى بساط ريح أسطوري يسافر إلى القارات الست في وقت واحد . شيء غريب كيف يستطيع الشاعر أن يتحكم بهندسة ابداعية في تشكيل حرف أو كلمة أو عبارة لتصبح بعد ذلك عصفوراً أو فراشة أو شجرة ورد أو قتبلة خطرة . هل من هديل باتساع مخافتي الكبرى يوفره الحمام، هل أنا كذبة بيضاء تبحث عن حقيقتها، وهل عبرت بدايتي في الغابة الأولى لأدخل غابة الأسفلت هل روضت ثعباني بمزمار التمدن كي يدجننى الحديد على مكائنه. فلو خيرت لم أختر سوى بشريتي .. أو..لا أكون ، وها أنا قايضت عمري لا بشيء غير شاهدة على قبري .. فهل رضى الرخام . هل تكون قريبة مني السماء .. هل أنا النغم النشاز ) (هل) هذه بها من التهويمات والأبعاد والدلالات ما حدا با بن هشام في مغنى اللبيب أن يفرد لها ما يزيد على خمس صفحات وما أوردته من أمثله على استخدام شاعرنا ل (هل) ما هو إلا من قصيدة واحدة فقط هي (رياح فلسفية) وبعد هذا الإسهاب فيما سبق ما أود قوله عن الصحيح في ديوانه هذا وما سبق من دواوين أن الشاعر جاسم الصحيح يتمتع بنظرة مجهرية للألفاظ والمفردات العربية .. ولعل استاذه في تلك السليقة العربية لا العلم الأكاديمي فالقوالب الأكاديمية لا تصنع شاعراً فحلا يهز المنابر بفصاحته وبلاغته ويملأ الأمسيات عبقاً شعرياً لا يكفيه تشنيف الأذن .. بل يتسرب مع مسامات الجيد تفاعلاً كيميائياً لذيذاً يضاعف النشوة ويوسع زاوية الرؤية داخل نفس (الإنسان) .. إن الإنسان بهمه الخاص جداً .. والخاص .. والعام والعام جداً .. يوجد في شعر الصحيح .. ما كنت أدخل في تابوت فاجعتي لو كان يملك ألا يطلع القمر ما سر (هل) في شعر الصحيح ؟ أرجو من النقاد بحث ذلك. هل هي مخزون تأملي مكتظ بالحكمة والألم ؟! هل هي (شيفرة) تكتنز بالعلم والثقافة والحس الإنساني الموجوع بالمكان والزمان ؟! هي هي (نواة) القنبلة الشعرية لدى الصحيح والتي تحاول أن يشطرها ليستغل ضوءها وطاقتها ونتائجها ؟! (هل) القاموسية أم الاجتماعية أم النفسية أم الإنسانية بشكل أعم وأشمل هي التي راح يوسعها الصحيح ضرباً ولكماً ؟!! أم أنها مفتاح مدينة تأملاته في الحياة، والأشياء ، والناس ؟ أظنها كذلك !! لقد أشغلت احد النحاة (حتى) حتى مات وفي نفسه شيء من حتى الإعرابية .. وهذه (هل) الصحيحة تقف بشموخ مصمت أمامنا في شعر جاسم . (هل رأيت الشم تنصب ينابيع من الجمر ؟ وهل أبصرت في الطوفان أمواجاً تقاتل ؟! هل يكمل مخلوق بلا حرية، هل حوصله الطائر كون من زغاريد، وهل ثمة طير خلقت دون حواصل ؟ وهل يعلم جهال الهوى ، كم مرة يحيا ويفنى العاشقون ؟ هل قامة الشعر أرفع أم ناطحات السحاب هل العلم والإثم صنوان يا صاحبي، هل نسينا لهات الحضارة ؟ ....) وتظل (هل) في شعر الصحيح سنداناً يضرب عليها ما تأبى من معان قد تكون صماء صلدة وقد تكون هشة لا تتحمل أكثر من طرقة .. هذه الكلمة بسيطة عن ديوانة (نحيب الأبجدية) الذي طبعه وأصدره نادي الطائف الأدبي مشكوراً في طبعته الأولى 1424ه 2003 م . وأخيراً هذا هو الصحيح في إحدى رباعياته يقول مشعلاً (هل) تأملاً وحكمة : مسائي ناعس الأطراف نام على حواشي الوقت غادرني وأسئلتي ندق الصوت فوق الصوت: هل الأجساد رزق الداء والأرواح رزق الموت ؟ وهل أعمارنا أسراء في زنزانة ال (يا ليت) ؟