لا يضع الشاعر السعودي الكبير سعد الحميدين نقطة في نهاية كل ديوان من دواوينه التسعة التي صدرت له على امتداد ثمانية وثلاثين عاماً من كتابة الشعر، بل يضع فاصلة صغيرة ليستأنف من بعدها رحلة الابداع المضنية، هذه الرحلة الشبيهة بقارب مُلقى به لا في البحر، بل في دُوار البحر، حيث نشوة المغامرة، يتداخل معها في حزمة واحدة القلق والسؤال، والخوف من المجهول، والنظر من خلال هذا الدُوار الابداعي.. اختلاس النظر إلى نجم ما في أفق قاتم، أو منارة ما تلمع خلف تلال الأمواج تشدّ بالغريق إلى الشاطئ. والفارق بين النقطة والفاصلة في هذه الصيرورة الشعرية، هو فارق مهم، بل حاسم، لأن النقطة وقف، والفاصلة استئناف، ولأن الاستئناف أو المواصلة في رحلة مضنية كرحلة الحميدين، دليل على مواصلة الابداع نفسه، فيما هو طرح اسئلة بلا انقطاع على الذات وعلى المجتمع والوجود.. وكأن السؤال في الشعر هو الأساس أكثر مما هو الجواب، بل لعل الشعر هو السؤال المطلق المفتوح على مصراعيه، والذي لا يحتمل أو لا يطلب اجابات شافية أو نهائية. ويظهر هنا وكأنه نقيض للفلسفة التي تسعى إلى تعليل الأشياء، وربط النتائج بالأسباب والمقدمات. فالإنسان يتفلسف لكي يهدئ من قلقه، ولكنه يشعر ليحرّك هذا القلق ويزيد فيه. منذ العام 1976، تاريخ صدور أول ديوان لسعد الحميدين، وهو «رسوم على الحائط» وصولاً لآخر صدر له حديثاً بعنوان: «سين بلا جواب» (بيسان للنشر والتوزيع 2013) والشاعر يُغلق الأبواب ويفتح النوافذ، ويكُثر من علامات السؤال والاستفهام والتعجب، يكثر من الفواصل لكي يستأنف من خلالها صيرورة أسئلته التي لا يجد لها جواباً. وهو ما رمز إليه بعنوان ديوانه الأخير، وكأنه عنوان يمتد على مسيرت الشعرية بكاملها. حيث من البداية تظهر هشاشة الكائنات أو خفتها التي تجعلها حائرة وعابرة. فالرسوم على الحائط سرعان ما تُمحى، وإذا لم تمحها يد ما، ريح صرصر، غبار، هاجرة إلى آخره، فإنها ما تلبث أن تنتحر بيدها. ذلك ما نراه في ديوان «وتنتحر النقوش أحياناً» (القاهرة 1991). ولعل الديوان الوسيط في أعمال سعد الحميدين «وللرماد نهاراته» (عام 2000) يقف كسؤال الأسئلة المعلقة التي يطرق بابها في شعره بلا جواب. فهو في هذا الديوان «مبحر وسابح وطائر» كما يقول، ويضرب في بحار الرمل نحو الشط حيث بقايا الراحلين لا تزال ماثلة. فكأنه مسافر في الوهم أو في العدم، حيث «النهارات مرمّدة»! بعد «وللرماد نهاراته» صدرت للشاعر مجموعة «غيوم يابسة» (دار المدى 2007) ومن ثم مجموعة «وعلى الماء بصمة» (2011). في «غيوم يابسة» علامات قحط وبوار، «وعلى الماء بصمة» إشارة للعابر لمحو العابر.. ولكن هذا العابر لا يمحى، بل يتكرر. هذا هو معنى استمرار السؤال بلا جواب في تجربة سعد. إنها «ديمومة العابر» لا بالمعنى الفلسفي الذي رمى إليه هايدغر، بل بمعنى الأسئلة التي لا أجوبة عنها في الشعر. والحال هو أن سعد لو وقوع على أجوبة عن أسئلته، لكان اكتفى بالأجوبة، وانطوى هذا القلق الخصب فيه. المعنى النقدي والاحتمالات الكثيرة حين يكون المعنى في نفس الفنان غائراً وملتبساً، فإن العبارة تبعاً لذلك، يصيبها مسّ من القلق، أو التشويش وربما الهذيان. يظهر ذلك في أعمال شعرية كثيرة لسعد الحميدين. ليس في ديوان «سين بلا جواب» لسعد الحميدين انعدام اسئلة، بل لعل الأسئلة كثيرة جداً ومتلازمة. ولكن ليس ثمة من جواب. ولعل الأكثر دقة، هو أن ثمة في قصيدة «لا شيء مثل الشيء» (من صفحة 27 إلى صفحة 35) ما يشبه إلماحاً إلى خلاص ما، كان موجوداً في الماضي، ثم ما لبث أن انقطع، لتعود نكهة الرماد تسيطر على فضاء الأسئلة. فهو يقول، بعد وصف الجفاف العام والصمت: «حجرة طينية الجدران عارية يضاجعها الخواء.../ جفاف صامت مدّ الخطى... قرف يحك بفأرة النجار... (صفحة 27). يقول: «فاقرأ لنكتب غير ما كتبوا/ احفر الكلمات/ سطّر من الأفكار والأشعار بالمقدار حتى تملأ السفر الكبير/ بالمختار متّع النفس مما تصطفي وقت الصفاء.. هي لوحة رسمت بأنفاس التمني والأمل» (صفحة 28 و29).. ملمحاً إلى ما يشبه برق النبوة. لكنه وفي القصير نفسها، ما يلبث أن يعود إلى (نفحات/ لفحات) التأزم، مشيراً إلى العماء في اللغة وفي التاريخ: (لا شيء في القاموس يعطيك المعاني» (صفحة 33) والقارب الطافي يعوم محملاً بالمعجزات لكنه بلا صولة.. «دمّامة كبرى مداها لا يحد» (صفحة 34). لكأن سعد يكتب اليوم أرضاً جديدة لليباب أو للخراب، تلك الأرض التي كتبها ث.س. إليوت من حوالي مئة عام مضت.. أو كأنه يرسم صورة لجاهلية جديدة. ففي الديوان إشارات وشواهد كثيرة على احباط كبير بل مدمر بل حارق يرسمه سعد أو يصوّره أو يومئ إليه أو يحكيه بشتى الصور الممكنة. يقول: «تضببت علامة العلامة.. لأنه الضياع/ قد فرّخ الضياع/ مربّعاً مثلثاً ومستقيماً/ في دورة هي الدوار ذاتها» (صفحة 58/59) من قصيدة «رسمة على صفحة الوقت». والديوان بقصائده التسع يرزح تحت ثقلين: ثقل تأمي وجودي وثقل اجتماعي سياسي. ونحن لا نستطيع أن نفصل بالشرط أو بحاجز، بين الهمّين اللذين يؤرقان الشاعر. فكل منهما يتغذى بالآخر أو يتداخل معه. وقبل أن نصل إلى تفصيل هذين الهمّين، لابد من الإشارة إلى أن الشاعر هيأ لمناخه الشعري بمفاتيح شعرية ونثرية جاءت بمثابة البخور الذي يبثه المضيف في مضافته، لينقل الحضور من خلاله إلى قابلية نفسية لما سيحدث. فهو يثبت في الصفحة الأولى من ديوانه، في سطر شعري على حدة، قول الشاعر السعودي حسين عرب: إن العيون إذا تضاءل نورها رأت اللالئ في الضحى أصدافا وهو بيت حكمي يذكرنا بما كان جدنا المتنبي ينثره من حكمة صائبة عتقها الدهر في صدره وأجراها على لسانه، أو من قول شعري يسير مسرى المثل السائر. والبيت الشعري المختار لحسين عرب شبيه بعلامة تقود إلى جوهر ديوان الحميدين. فليست العيون هي التي تعمى ولكنها البصائر. والبصائر العمياء تقود إلى المتاهات وتستبدل الحقائق بالأوهام، ويلتبس على الناظر من جرائها اللؤلؤ والصدف. أما المدخل الثاني الذي اختاره الشاعر لديوانه، فهو قول نثري حكمي لمبدع آخر هو ميخائيل نعيمة. ويقول فيه: محراثك من حديد ومحراثي من ورق، وحقلك من تراث وحقلي من درق. فكلانا مزارع، وما الفرق إلا في أنك تبذر من كفك وأبذر من قلبي، فتشتغل لتأكل وأشتغل لأؤكل» وهي فقرة تدل على معاناة الكتابة وعظمتها ومأساويتها في وقت واحد. وهي معاناة الشعراء على الاجمال. فلا يمر سعد الحميدين بما يمر به من مفارقات المجتمع والتاريخ والحياة الخاصة والعامة مرور اللامبالي، بل يمرّ فيها مرور المنغمس فيها حتى العظم، حتى القهر وحتى الموت أو الجنون. وتراه من البداية مشدود الجسد والعصب، أو مصلوباً لحدود التمزق بين حالين، حال «الأنا» وحال «الأنت» وهما حالان على صراع وتنافر. إن ثمة ما يلامس أو يشبه الميكانيكية بين فعل «الأنا» ورد فعل «الأنت»: قالوا فقلنا، هنا الشمال، هنا اليمين: «يقول أناي فيقول الآخر أناي أيضاً» (صفحة 9 من قصيدة ربيع الرماد/ ويتمادى هذا التنافر في الضمائر وفي الحروف وفي الأحوال والكلمات حتى «يضيع الربيع بين هذا وذاك» (صفحة 14) وحتى تختلط الأشياء والمفاهيم وتمسخ الحقائق مسخاً.. يقول مشيراً إلى ذلك: «نسر أحول يحوم/ بربيع مجنون» (صفحة 15) «حلم يتفرطح سؤال هائج كرأس جاموس» (صفحة 15). والصيغ الشعرية التي يضعها الشاعر لمثل هذه الاشكاليات كثيرة يتصل بعضها باستعادة بعض أقوال حماسية مأثورة مثل «طلعنا عليهم طلوع المنون فصاروا هباءً وصاروا صدى» (صفحة 15). والشاعر يضعها لا في سياق الفخر، بل في سياق السخرية والاستهجان والتعجب. وهو يكثر من استعمال هذا السباق الأسلوبي في الكثير من قصائد الديوان، فيضع أمثالاً شعبية متداولة، أو أبياتاً شعرية معروفة في سياق تهكمي، لناحية أن الأضداد تكشف بعضها البعض إذا تواجهت أو تلازمت. وهو أيضاً يحرّف الكلام الفصيح المعروف عن مساره الصحيح إمعاناً في السخرية والتهكم فيكتب، بالصورة التالية، الأنشودة المعروفة: «من المحيط الهادري/ إلى الخليج الثائري (صفحة 16) يلي ذلك بيت الشعر المعروف للشاعر الفلسطيني الراحل يوسف الخطيب الذي يقول فيه: أكاد اومن من شكٍ ومن عجب هذه الملايين ليست أمة العرب والشاعر إذ يورد في قصائده شعارات قديمة منفوخة طافية كالجثث على وجه الماء، فإنه من خلال الكولاج الشعري (اللصق) يمارس معنى نقدياً من باب المفارقة.. كأن تنادي الجبان بالنمر أو السبع مثلاً، وأن تسمي البخيل حاتما الطائي، والعيي الفصيح.. المعنى السياسي الذي يصيبه سعد الحمدين في تجربته يحمل مفارقة ولا يخلو من السخرية. إنه مثلاً «حلم التقدم إلى الخف» (صفحة 18) أو «ديمومة القتل» كما في قصيدة «أنفاس» (صفحة 19)، حيث يتجدد الرصاص والدماء، «والدورة تأخذ دورتها» (صفحة 20)، ما يذكّر بقول بدر شاكر السياب في قصيدة «الأسلحة والأطفال»: «رصاص/ رصاص/ رصاص قديم لعهد جديد».. فإنه يطرح سؤالاً تاريخياً ووجودياً خطيراً حول ديمومة القتل واستمراره من بدء الخليقة حتى اليوم، وهو يفعل ذلك من خلال اقصيدة متكئاً» على أبيات للشاعر خالد الفرج، يقول فيها: باسلم هل لك في الوجود حقيقة حتى يسطَّر باسمك الميثاق بالله قل لي أين كنت مذ اعتدى قابيل حتى جرى الدم المهراق كم ألف عام أنت فيها مختفٍ والقتل جار والدماء تراقُ ويطرح الشاعر سعد الحميدين بعد ذلك سؤالاً حول السلم أين هو؟ إذا كان السلم هو الأساس، والحرب الاستثناء، فأين هو؟ ولماذا تستمر الحرب ويظهر السلم مُداساً تحت أقدامها كريشة تحت الحوافر؟ وتصل هذه الأسئلة المرة بالشاعر إلى حدود مسخ الكائنات «الفكر الأموج يتقوّس/ والفكر الأعرج يتمرّغ» (صفحة 23). والضحك بكاء مختلط، ولا يدوم سوى الخراب.. الخراب! صور المعنى الشكل واللغة قلنا إن الخراب، الخراب، الخراب هو المستمر في رؤيا سعد الحميدين الشعرية. هذا الخراب الطويل المتمادي والمستمر الذي يراه الشاعر، يعبّر عنه في قصائده بصور كثيرة. بعضها كما سبقت الإشارة يضعه الشاعر في «كادر» من المفارقات، فتنكشف الأضداد. والبعض الآخر يذهب إليه الشاعر من خلال الرمز أو الاستعارة. لكنه في الوقت نفسه يلجأ إلى أسلوب أحرفي تصويري للوصول إلى غايته أو ايحاءاته. فهو لهذه الناحية مثلاً يكتب كلمة الخراب المقترن بالتطاول والاستمرار، على الصورة التالية «خررر اااب». أي أنه يمط صورة كتابة الحروف على الورقة. مثل ذلك يفعله في كتابة كلمات أخرى مقطعة ومكررة للتعبير عن معنى التطاول والديمومة، مثل كتابته: «يجري إلى ما ااااااا لا يدريه (صفحة 15) أو كلمة الاحتضارات يكتفها بالصورة التالية: «الاحتضااااااا رات» (صفحة 18) والواقع هو أنه حينما تكون الفكرة عميقة أو ملتبسة أو متعددة الأوجه، فإن التعبير عنها تضيق به العبارة، ما يضطر الشاعر إلى أساليب متعددة، أو حيل تعبيرية لجأ إلى بعضها الشاعر سعد الحميدين. فهو مضطر أحياناً لقول تناقض ما في الشيء نفسه، أو قول الشيء، «نقيضه في لحظة واحدة.. وربما استعمل الإلحاح كقوله: «لهب في لهب في لهب (صفحة 21)، أو فصل الشيء عن نقيضه بخط مائل: «حرّكها/ دعها/ أشعل/ أخمد» (صفحة 23). أو تقديم التعارض متلازماً في سطر واحد: «والضحك بكاء مختلط (صفحة 24) وربما قطّع الشاعر الكلمة الواحدة وكتبها شاقولية في حين هي أفقية، كقوله: ممّ وكيف؟ و ل م ذ ا ا ا ؟ (صفحة 45 و46). ما يقرّبه أحياناً من الصورية أو الشكلانية، وهي طريقة تجريبية في كتابة القصيدة، عرفها الغرب أول ما عرفها على يد الشاعر الفرنسي غيوم أبولينير، فيما سماه «التصويرية» (Figurisne) أو تصوير الكلمات تصويراً بدلاً من كتابتها بالحروف، كقصيدة «اليمامة المطوّحة» مثلاً. ولا نحسب أن الشاعر سعد الحميدين قد تأثر بهذه المدارس الشكلانية التجريبية للقصيدة كما عرفها الغرب. والأصح اعتباره مجرّباً في الكتابة التصويرية للقصيدة العربية. وهي محاولات عرفها بعض الشعر العربي من القرون الوسطى، ولا يزال يعرفها حتى يومنا هذا. لكن برغم ذلك أو معه، أي مع بعض الشكلانية وبعض التجريب الأسلوبي، فإن الشاعر قادر على أن يوصلنا أو يصل بنا أحياناً إلى «الشعر الصافي»، الشعر الرائق، ذاك الذي يسميه هو في إحدى مقطعاته «شعر الشعر» وبخاصة في القصائد القصيرة في الديوان، وهي تلك المقطعات المكثفة الإلماحية التي أثبتها الشاعر تحت عنوان: «كلمات تمشي» ومنها، على سبيل المثال، القصيدة المسماة «قراءة» وهي: الصفحة بيضاء والسطر أشد بياضا يقرأها الأعمى بالهاجس حيناً لا باللمس!