أقل من عشرة أيام وتجرى الانتخابات البرلمانية في إسرائيل، لاختيار أعضاء الكنيست السادس عشر، وتحديد شخص رئيس الوزراء القادم. وكانت استطلاعات الرأي العام في إسرائيل قد أشارت إلى تقدم اليمين بصفة عامة على اليسار، ومن داخل هذا التقدم يأتي الليكود متفوقا على حزب العمل، كما تتفوق أيضا أحزاب اليمين الإسرائيلي بكافة أطيافها على الأحزاب المسماة باليسارية. ومنذ أكثر من شهر وتحديدا في أعقاب تقديم موعد الانتخابات البرلمانية ليجرى في الثامن والعشرين من يناير الجاري بدلا من شهر نوفمبر القادم، وبعد فوز الجنرال عمرام كتسناع بزعامة حزب العمل على حساب رئسيه السابق الجنرال العراقي الأصل بنيامين بن اليعازر، ونجاح الجنرال شارون في الاحتفاظ بمنصبه كزعيم لكتل الليكود بعد الفوز على منافسه بنيامين نتانياهو، أشارت استطلاعات الرأي العام التي جرت في إسرائيل إلى تقدم أحزاب اليمين بصفة عامة، وإلى أن تكتل الليكود سيرفع حصته بمقدار الضعف وربما أكثر، فالحزب الذي يمتلك حاليا تسعة عشر مقعدا، يمكن أن يحصل على نحو أربعين مقعدا، وأن حزب العمل الذي يمتلك خمسة وعشرين مقعدا في الكنيست الخامس عشر، ستتراجع حصته إلى تسعة عشر مقعدا في الانتخابات القادمة. وبصفة عامة أشارت استطلاعات الرأي العام في إسرائيل إلى أن جبهة اليمين الإسرائيلي ستفوز بأغلبية مقاعد الكنيست على النحو الذي يضمن لها تشكيل حكومة جديدة تستطيع أن تحصل على ثقة البرلمان وتعمل دون إزعاج كبير من المعارضة "اليسارية". وفجأة توالت الفضائح داخل تكتل الليكود ، حيث حملت الأنباء معها أكبر تزوير بشراء أصوات الناخبين من أعضاء اللجنة المركزية الذين ينتخبون قائمة الحزب للانتخابات القادمة، حيث تمت عملية شراء للأصوات على النحو الذي مكن شخصيات مغمورة من الحصول على موقع متقدم على قائمة الحزب الانتخابية. وبعد ذلك بأيام محدودة تفجرت فضيحة مدوية بشأن حصول ابني شارون على مبلغ مليون ونصف مليون دولار من يهودي بريطاني مقيم في جنوب افريقيا لتسديد نفقات وتكاليف الحملة الانتخابية لوالدهما لعام1999. وقد تطورت القضية وسببت أزمة لشارون بالفعل، سرعان ما انعكست في استطلاعات الرأي العام الإسرائيلي الذي هبط بحصة الليكود إلى نحو ثمانية وعشرين مقعدا، ودفع بحصة حزب العمل إلى تجاوز العشرين مقعدا. وبمرور الوقت تزايد الحديث عن احتمال تراجع شعبية الليكود بسبب هذه الفضائح على النحو الذي يمكن أن يقود إلى تعادل المعسكرين وربما إلى تفوق معسكر اليسار. وتزايد موقف شارون حرجا عندما قرر رئيس اللجنة المركزية المشرفة على الانتخابات قطع البث المباشر لكلمة شارون لأن الأخير استغلها في الهجوم على حزب العمل بدلا من أن يستخدمها في الرد على الاتهامات الموجهة إليه، وهو الأمر الذي عُد دعاية انتخابية في غير الأوقات المخصصة لها بالمخالفة للقانون الإسرائيلي. ولكن ما حدث عمليا هو أن استطلاعات الرأي العام في إسرائيل سرعان ما كشفت عن عودة الليكود لاستعادة تفوقه الكبير، إذ جاءت استطلاعات الرأي العام التي نشرت في الثالث عشر من يناير الجاري عن تقدم حصة الليكود إلى ثلاثة وثلاثين مقعدا، وتراجع العمل مرة ثانية إلى تسعة عشر مقعدا، مع مؤشرات أولية تقول إن الليكود سيعود إلى حصته السابقة التي تفوق الأربعين مقعدا. والسؤال هنا: لماذا عاد الليكود إلى التفوق الكبير من جديد وبشكل سريع، ولماذا لم تؤد فضائح الليكود وتراجع أسهمه إلى تزايد حصة حزب العمل باعتباره البديل المقابل؟ الحقيقة أن هناك العديد من العوامل التي تقف وراء ما جرى، والتي تشير في الوقت نفسه إلى أن الليكود سيكون الحزب الأول في الانتخابات القادمة، وأن معسكر اليمين سيحصل على أغلبية مريحة تمكنه من تشكيل الحكومة القادمة دون حاجة ملحة إلى الائتلاف مع حزب العمل. بداية نشير إلى أن نتائج استطلاعات الرأي العام في إسرائيل والتي كانت تشير إلى تفوق ساحق لقوى وأحزاب اليمين يبدو أنها قد دفعت بأحزاب اليسار وأولها حزب العمل إلى التسليم المبدئي بالهزيمة في الانتخابات القادمة، أي أن اليسار قبل بالخسارة من قبل أن يذهب إلى صناديق الانتخاب. وقد تبدى ذلك بوضوح في حالة الانقسام التي سادت داخل صفوف حزب العمل إذ تفرقت القيادات وغابت الملامح الرئيسة للحزب، فجاء برنامجه الانتخابي باهتا إلى حد كبير. ونظرة إلى البرامج الانتخابية للأحزاب الإسرائيلية بشأن الانتخابات القادمة تشير بوضوح إلى أن أحزاب اليمين وتحديدا حزب الليكود قدم برنامجا يتسم بالتماسك ويعبر إلى حد كبير عن التوجهات الفكرية للحزب، إذ رفض فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة، كما أكد أن القدس الموحدة هي عاصمة إسرائيل الأبدية مشيرا إلى عدم وجود شريك فلسطيني يمكن التحاور معه ومن ثم طرح مجددا فكرة الحكم الذاتي الإداري للبشر دون الأرض، وإذا كان ثمة حديث عن الدولة الفلسطينية فليكن ذلك على منطقتي ( أ ، ب ) والبالغة نسبتهما نحو 41% من أراضي الضفة الغربية، إضافة إلى ثلاثة أرباع قطاع غزة. هذا بينما اتسم برنامج حزب العمل بالهلامية وعدم التحديد، بحيث لا يعبر عن مواقف رؤى ومواقف القوى المؤيدة للتسوية السياسية، وبحيث أنه لا يكفي لبلورة إجماع حوله من جانب الناخبين المؤيدين لفكرة التسوية السياسية. فعلى سبيل المثال جاء في برنامج حزب العمل تأييد فكرة التسوية السياسية والوصول إلى دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل عبر المفاوضات ولكن دون عودة إلى حدود ما قبل الخامس من يونيو 1967، ودون إعادة تقسيم القدس، ودون الإقرار بمبدأ حق العودة. وهي عناصر سبق وفجرت قمة كامب ديفيد بين باراك وعرفات، وبالتالي فقد كان المنطقي أن يتبنى الحزب مواقف واضحة من مفاوضات التسوية وأن يطرح رؤى جديدة تتسم بالشجاعة حتى يمكن جذب الأصوات المؤيدة لعملية السلام ويعيد توحيد قاعدة الحزب الانتخابية. فما حدث هو أن أداء باراك في مفاوضات كامب ديفيد والأكاذيب التي روجها أنه قدم "تنازلات غير مسبوقة" للشعب الفلسطيني رفضها عرفات ورد بإشعال انتفاضة "إرهابية" لانتزاع المزيد من التنازلات، ثم اشتراك بيريز وبن اليعازر في حكومة شارون، كل ذلك أدى إلى تمزق القاعدة الانتخابية للحزب فذهب جزء منها إلى تكتل الليكود والأحزاب اليمينية على أساس أن الليكود هو الأقدر على مواجهة الفلسطينيين الذين كما قال باراك يرغبون في تدمير دولة إسرائيل، وذهب فريق آخر لا يزال مؤمنا بالتسوية السياسية ومتشككا في أقوال باراك ومنهج بن اليعازر إلى أحزاب تقع على يسار العمل وتحديدا كتلة ميرتس، كما ذهب فريق ثالث إلى حركة شينوي التي باتت لدى الرأي العام الإسرائيلي تمثل "الطهارة الليبرالية" ومن ثم تتوقع لها استطلاعات الرأي العام أن تحصل على نحو سبعة عشر مقعدا. من هنا لم يكن صراع الليكود مع العمل على شريحة "الأصوات العائمة أو المترددة" والتي تحسم مواقفها في اللحظات السابقة على الانتخابات، والتي يتزايد الصراع عليها بين الأحزاب المختلفة وتحديدا المتصارعة التي تمثل معسكرات متنافسة في الرؤى والتوجهات، وإنما دار الصراع على الاستقطاب من قاعدة حزب العمل، أي مؤيدي الحزب التقليديين والذين يعطون له أصواتهم بموجب الالتزام الحزبي النابع من الانتماء الفكري. وتبدو أزمة حزب العمل ممتدة منذ اغتيال زعيمه التاريخي اسحاق رابين في الرابع من نوفمبر 1995، فمنذ ذلك لم يشهد الحزب قيادة تتمتع بسمات شخصية على درجة عالية من الوضوح والاتساق مع رؤية الحزب كما عبر عنها رابين، ويمكن القول ان الجنرالين باراك وبن أليعازر كانا أقرب إلى يمين الحزب، فتمزق جناح الحزب اليساري، أما الجنرال عمرام متسناع الذي لا خبرة سياسية له عدا كونه كان رئيسا لبلدية حيفا، فهو أقرب إلى الجناح اليساري داخل الحزب، والذي سبق وتمزق، فقد أفقد الحزب مزيدا من تماسكه ودفع بأجنحة يمين الحزب إلى الخروج والبحث عن قوى سياسية تعبر عن رؤاهم في وقت بدت فيه قضية الأمن تسمو على جميع القضايا والاعتبارات وتتقدم على قضية النزاهات الشخصية. لكل هذه الاعتبارات استعاد الليكود تفوقه الكبير سريعا، ولم يتمكن حزب العمل من استثمار الفرصة التي اتيحت له، فقاعدة حزب العمل تمزقت يمينا ويسارا بفعل الزعامات التي قادته منذ مقتل رابين عام 1995. جريدة عمان