من يقصر نظره على العصر الحديث, وما حدث لامة الاسلام فيه, وما يحدث, ربما ظن ان هذا العصر هو الوحيد الذي نكبت فيه الامة, ومن ثم فانه سيرسم لوحات سوداء لمستقبلها, ويسهم في نشر الوهن والضعف والهزيمة النفسية, من خلال قناته التعليمية او الاعلامية التي يتعامل بها, وهو بهذا يكون معول هدم من الداخل, تستعين به - دون علمه - القوى الخارجية في تفتيت الصف من وسطه كالسوس في جذع النخلة الشامخة. وليس اشد على امة من ان تمنى بالهزيمة النفسية, فانها حينئذ لن تكون مستعدة لاي مقاومة تذكر, وهناك سوف تموت وهي مهينة ذليلة, وذلك هو ما وصلت اليه الحال خلال عصور التتر حين كان التتري يوقف مجموعة من رجال المسلمين في مكان ويطلب منهم ان ينتظروه حتى يحضر سيفه ليقتلهم, بل انه يضع رأس المسلم على صخرة, ثم يذهب ليأتي بالسيف, فينتظره ذلك المهزوم القلب, حتى يجز رأسه دون ادنى مدافعة. ولكن التاريخ يحدثنا ان امتنا في تاريخها الطويل تعرضت لمصائب ومحن كادت تجتث وجودها, ولكنها حينما بعثت قوتها الذاتية الكامنة, اذا بها تنهض من كبوتها, وتستعيد قوتها, ثم تجني نصرها العظيم. وفي العودة الى ما سجله التاريخ كذلك تفسير واضح الدلالة لهذا الحقد المستشري من الامم الاخرى على امة الاسلام, فهناك سوف تجد لاحداث اليوم اصولها وجذورها. ولعل من اكبر النكبات التي منيت بها امتنا الحروب الصليبية, التي شنتها قوى الشر والبغي بين عامي 1096 و1291 للميلاد, خلال ثلاثة قرون متطاولة, وكان هدفها القضاء على الاسلام والمسلمين, واحتلال بيت المقدس, وتأسيس ممالك جديدة, والاستيلاء على ثروات الشرق. وكان المسلمون مفككين, وفي حالة تمزق, مما ساعد على هزيمتهم امام جند الصليب في نهاية الامر هزيمة منكرة. لقد ارتكب الصليبيون في طريقهم الى القدس جميع انواع السلب والقتل والنهب والفساد, واكلوا اللحوم البشرية من الجوع, ثم استولوا على بيت المقدس عنوة, بعد ان خربوا في طريقهم كثيرا من الممالك, لقد كان المسلمون يذبحون في الشوارع والمنازل, ويلقون بأنفسهم من الابراج العالية حين يعييهم الهرب, والصليبيون يركضون وراءهم على ظهور الخيل, فيدهسون الجثث, وينحرون الهاربين كالخراف, ويمثلون بهم فوق جثث اخوانهم, ويحرقون بعضهم احياء, هكذا وصف الحدث من رآه من النصارى, حتى قال: (ولم تكن لتجدي في ذلك الحين دموع النساء ولا صراخ الاطفال, ولارؤية المكان الذي صفح فيه المسيح عن جلاديه). وكانوا كثرا تمدهم اوروبا كلها بما يريدون, حتى ظن الناس ان غمتهم لن تزول ابدا. وما هي الا ان ظهر نور الدين محمود الرجل الذي نشر راية القرآن, وضرب بسيف محمد - صلى الله عليه وسلم - يحمل همين, الاول: توحيد المسلمين في دولة واحدة قوية مهابة, والثاني: طرد الافرنج من بلاد الاسلام, وقد جمع الله لهذا القائد صفات عديدة كان اجلها البطولة والعبادة:==1== جمع الشجاعة والخشوع لربه==0== ==0==ما أحسن المحراب في المحراب==2== وهو الذي قال: (اني لأستحي من الله تعالى ان يراني مبتسما, والمسلمون محاصرون بالفر نج). وكان يقول من فرط شجاعته وقوة ايمانه: (لو كان معي الف فارس لا ابالي بعدو). وقد استطاع ان يحقق كثيرا من حلمه الاول وهو توحيد امارات المسلمين, فما ترك الدنيا الا والشام كلها ومصر واعالي الفرات دولة واحدة. وكان له مع حلمه الثاني وهو طرد الصليبيين من ديار المسلمين صولات وجولات, وقد مهد لذلك بان اقبل على الجد والاجتهاد, وتعبئة الناس من حوله فراسل ولاة الاطراف, وكاتب علماء البلاد وعبادها, يستمد منهم الدعاء, ويطلب منهم ان يحثوا المسلمين على الغزاة, فلما اجتمعت العساكر, سار نور الدين نحو (حارم), فلما علم النصارى زحفوا عليه بحدهم وحديدهم عام 555ه, وملوكهم وفرسانهم, قد ملأوا الارض وحجبوا السماء, فدبر مكيدة حربية هائلة, استطاع بها ان يقتل راجلتهم, وفرسانهم, وينتصر عليهم انتصارا ساحقا, وكان بين الاسرى كل الملوك والامرء, فارسل اليه الفرنج في المهادنة فابى بعزة المسلم المنتصر. نعم لم يستطع نور الدين محمود ان يسترد بيت المقدس من ايدي الصليبيين, ولكنه ولاشك كان ممهدا لانتصار صلاح الدين بطل حطين.