مصر تعرب عن تضامنها مع لبنان    أوكرانيا وروسيا.. هجمات وإسقاط مسيرات    الهلال «العالمي» يقهر الاتحاد بثلاثية قاسية وينفرد بالصدارة    الأخضر السعودي تحت 20 عاماً يستهل مشواره في التصفيات الآسيوية بفوزه على المنتخب الفلسطيني    معرض الرياض الدولي للكتاب.. يفتح أبوابه الخميس المقبل    الفرس "لاسي ديس فاليتيز" تُتوّج بكأس الملك فيصل للخيل العربية    شرطة الشرقية: واقعة الاعتداء على شخص مما أدى إلى وفاته تمت مباشرتها في حينه    ترمب: الوقت لا يسمح بإجراء مناظرة ثانية مع هاريس    مستشفى الملك فيصل التخصصي ضمن أفضل المستشفيات الذكية عالميًا    بلدية الدائر تنهي استعداداتها للاحتفال باليوم الوطني 94    تعزية البحرين وتهنئة أرمينيا ومالطا وبيليز    قصف في إسرائيل وسقوط الضحايا بلبنان    افتتاح تطوير شعيب غذوانة بعد تأهيله        بلادنا مضرب المثل في الريادة على مستوى العالم في مختلف المجالات    السعودية تتصدر G20 في نمو السياح الدوليين خلال 2024    كوليبالي خارج تشكيل الهلال بمواجهة الاتحاد    الرياض يحقق فوزاً قاتلاً على الرائد بهدفين لهدف    عرض جوي يزين سماء الرياض بمناسبة اليوم الوطني ال 94    لقاح على هيئة بخاخ ضد الإنفلونزا    بشرى سارة لمرضى ألزهايمر    "اليوم الوطني".. لمن؟    بعد اتهامه بالتحرش.. النيابة المصرية تخلي سبيل مسؤول «الطريقة التيجانية» بكفالة 50 ألفاً    تفريغ «الكاميرات» للتأكد من اعتداء نجل محمد رمضان على طالب    القيادة تعزي ملك البحرين في وفاة الشيخ خالد بن محمد بن إبراهيم آل خليفة    ضبط 22716 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    زاهر الغافري يرحلُ مُتخففاً من «الجملة المُثقلة بالظلام»    الفلاسفة الجدد    حصن العربية ودرعها    الشرقية: عروض عسكرية للقوات البحرية احتفاءً بيوم الوطن    أبناؤنا يربونا    بلدية الخبر تحتفل باليوم الوطني ب 16 فعالية تعزز السياحة الداخلية    كلية الملك فهد الأمنية الشرف والعطاء    بأربعة أضعاف.. هاريس تتفوق على ترمب في جمع التبرعات    شكر وتقدير لإذاعتي جدة والرياض    مآقي الذاكرة    "البريك": ذكرى اليوم الوطني ال94 ترسخ الإنتماء وتجدد الولاء    "تشينغداو الصينية" تنظم مؤتمر التبادل الاقتصادي والتجاري بالرياض.. 25 الجاري    اختفاء «مورد» أجهزة ال«بيجر»!    مصر: تحقيق عاجل بعد فيديو اختناق ركاب «الطائرة»    فلكية جدة: اليوم آخر أيام فصل الصيف.. فلكياً    الشورى: مضامين الخطاب الملكي خطة عمل لمواصلة الدور الرقابي والتشريعي للمجلس    انخفاض سعر الدولار وارتفاع اليورو واليوان مقابل الروبل    رياح سطحية مثيرة للأتربة والغبار على القصيم والرياض    2.5 % مساهمة صناعة الأزياء في الناتج المحلي الإجمالي    خطيب المسجد النبوي: مستخدمو «التواصل الاجتماعي» يخدعون الناس ويأكلون أموالهم    «النيابة» تحذر: 5 آلاف غرامة إيذاء مرتادي الأماكن العامة    "مدل بيست" تكشف مهرجان "ساوندستورم 2024" وحفل موسيقي لليوم الوطني ال 94    "تعليم جازان" ينهي استعداداته للاحتفاء باليوم الوطني ال94    بيع جميع تذاكر نزال Riyadh Season Card Wembley Edition الاستثنائي في عالم الملاكمة    الدرعية تحتفل بذكرى اليوم الوطني السعودي 94    الناشري ل«عكاظ»: الصدارة أشعلت «الكلاسيكو»    وزارة الداخلية تُحدد «محظورات استخدام العلم».. تعرف عليها    خطيب المسجد النبوي: يفرض على المسلم التزام قيم الصدق والحق والعدل في شؤونه كلها    خطيب المسجد الحرام: أعظم مأمور هو توحيد الله تعالى وأعظم منهي هو الشرك بالله    حصّن نفسك..ارتفاع ضغط الدم يهدد بالعمى    احمِ قلبك ب 3 أكوب من القهوة    قراءة في الخطاب الملكي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كلنا فلسطينيون
نشر في اليوم يوم 24 - 09 - 2002

لا أجد سوى شعار "كلنا فلسطينيون" أدعو إلى رفعه في الفضاء العربي، وترديده بأعلى صوت ممكن، في مناسبة الذكرى الثانية لانتفاضة الأقصى، التي تحل يوم السبت القادم 28 سبتمبر.
ولا أعرف كيف سيمر ذلك اليوم في عالمنا العربي، لكني أتمنى - وألح في الرجاء - ألا نبخسه حقه، فنستقبله ونودعه كأي يوم عادي في زمننا المثقل بالأحزان، والمليء بالاحباطات والأحلام المجهضة.
(1)
أدري أن شهر سبتمبر/ أيلول من شهور الأحزان في الذاكرة العربية عامة والفلسطينية بوجه أخص. فقد علقت عليه لافتة "أيلول الأسود" منذ شهدت بدايته الصدام الدامي بين الفلسطينيين والسلطة الأردنية، الذي وقع في الخامس من ذلك الشهر عام 1970م، واختلط سواد صفحته بلون الدم مغموساً في الأشلاء الفلسطينية حين شهد منتصفه مذبحة صبرا وشاتيلا قبل عشرين عاماً، وانضافت إلى أجوائه جرعة حزن من العيار الثقيل بوفاة الرئيس جمال عبد الناصر، في نفس اليوم الذي اندلعت فيه الانتفاضة لاحقاً (28 سبتمبر). لكني ازعم أن انتفاضة الأقصى تكاد تكون نقطة الضوء الوحيدة في عتمة ذلك الشهر، ولحظة الأمل في مناخه الذي تظلله الغيوم، والمسكون بالإحباط. لماذا؟
لأن أحداث بقية الشهر اذا كانت تمثل انقضاضاً على الحلم الفلسطيني او انحساراً له، فان الانتفاضة جاءت إشهاراً لقيامة الشعب الفلسطيني وإصراره على الدفاع عن الحلم. ليس ذلك فحسب، وإنما ازعم أن هذه الانتفاضة هددت الحلم الإسرائيلي ذاته، حين نقلت الخوف إلى قلب اسرائيل، التي ظلت منذ ظهرت إلى الوجود تصدر الخوف إلى الآخرين، مطمئنة إلى أنها وفرت الامن لسكانها وحصنتهم ضد مظان الأذى.
رب قائل يقول ان نشرات الاخبار وصحف الصباح تقول ان الإسرائيليين في ظل حكومة شارون بوجه أخص سحقوا الفلسطينيين ودمروا حياتهم وكسروا شوكتهم، هذا صحيح بصورة نسبية، لكني اذكر بثلاثة أمور من الأهمية بمكان، الأول أن الفلسطينيين لم يهزموا ولم يركعوا، والحروب جولات كما أن الأيام دول. والثاني أن هذه ليست نهاية الحلم ولا نهاية التاريخ الفلسطيني، وإنما هناك مستقبل ممتد ومفتوح لمختلف الاحتمالات. أما الأمر الثالث فهو انه مهما طال الأجل بالظلم، فلن يصح إلا الصحيح في نهاية المطاف، وإلا انقلبت سنن الحياة واختلت موازين الكون.
(2)
لا خير فينا ان لم نقلها. وإذا كانت صحيفة "لوموند" قد صدرت في اليوم التالي للهجوم على مركز التجارة العالمي في نيويورك بعنوان على صدر صفحتها الأولى يقول: كلنا أمريكيون، فأولى بنا أن نبادر في ذكرى الانتفاضة إلى الإعلان على الملأ: كلنا فلسطينيون. وليس من شك أن عنوان الصحيفة الفرنسية كان تعبيراً عميقاً ورشيقاً عن التضامن، على ما بين فرنسا والولايات المتحدة من تباين واختلاف، فرضته اعتبارات الثقافة والتاريخ والجغرافيا. وهو تباين لا مكان له في الحالة الفلسطينية - العربية. وإذا كان بوسع فرنسا أن تدير ظهرها لما يجري في الولايات المتحدة، وان تنأى بنفسها عنها تحت أي ظرف، فالأمر على جانبنا جد مغاير. ذلك أن كل ما يصيب فلسطين مردود أثره على العالم العربي، الذي أثبتت خبرة نصف القرن المنصرم انه لن ينعم بالأمن والاستقرار، إلا اذا عاد السلام إلى فلسطين، مبنياً على العدل والإنصاف. ثم لا تنس انه ما من بلد عربي إلا وارتوى تراب فلسطين بدماء أبنائه، منذ عام 1948 وحتى هذه اللحظة. ولا تنس أيضاً أن الذين أقاموا اسرائيل في فلسطين لم تشغلهم أسطورة "ارض الميعاد"، بقدر ما كانوا مشغولين بغرس خنجر في الخاصرة العربية، يمزق أنسجة الجسم ويسبب له وجعاً مستمراً.
بسبب من ذلك فلعلي لا أبالغ اذا قلت ان فلسطينية العرب جذورها اعمق وأقوى بكثير من امركة الفرنسيين. ليس ذلك فحسب، وإنما اذا كان الفرنسيون قد قالوها مرة، في لحظة انفعال وتعاطف، ثم عادوا إلى حذرهم وحساسيتهم إزاء الأمريكيين واستخفافهم بثقافتهم، فان فلسطين في الإدراك العربي حاضرة طول الوقت. بل ازعم أنها صارت مرآة العرب، من حيث ان انتصارها او انكسارها لن يكون في حقيقته سوى انعكاساً لقوة العرب او هزيمتهم.
أما لماذا يتعين علينا أن نقولها الآن، وفي أول فرصة، فردي على ذلك هو ما ذكرته في الأسبوع الماضي، من أن القضية عادت إلى نقطة الصفر. وشارون نفسه هو من أعلن انه يواصل "حرب الاستقلال"، من ثم فان انتصاره لن يكون إلا بتحطيم إرادة البشر، ووضع الفلسطينيين جميعاً في معازل محكمة الإغلاق، فيما وصف بأنه اكبر سجن في التاريخ، ثم بتذويب الوطن وطمس معالمه.
لا يقف الأمر عند حد ابتلاع فلسطين والإجهاز على قضيتها، وإنما هناك عنصر آخر في المشهد جعله اكثر إثارة وفجاجة، يتمثل في تلك الرعاية الأمريكية الصريحة، التي بلغت مدى غير مسبوق في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي. وهي الرعاية التي ابتدعت لأول مرة في تاريخ العلاقات الدولية مبدأ إضفاء الشرعية على "حق" المحتل في الدفاع عن نفسه ضد الشعب الذي يرزح تحت الاحتلال. فضلاً عن ذلك فقد أقرت - لأول مرة أيضاً - مبدأ ضم الأراضي بالقوة المسلحة (وزير الدفاع دونالد رامسفيلد دافع عن وجود المستوطنات وقال انها بنيت على ارض حازها الإسرائيليون نتيجة حرب انتصروا فيها). وهذا المسلك وذاك يعد تحدياً مدهشاً لكل ما أقرته المواثيق والاتفاقات والأعراف الدولية، بقدر ما يجسد الإذعان المشين للهوى والاستكبار الإسرائيليين.
هذه الظروف في مجموعها تمثل اختباراً حقيقياً للإرادة العربية، فضلاً عن الفلسطينية بطبيعة الحال. لذلك زعمت أننا في قلب اللحظة التي ينبغي أن يرفع فيها شعار "كلنا فلسطينيون"، على لافتة تمتد بطول وعرض الأمة العربية، من المحيط إلى الخليج.
(3)
لتونا خارجون من "مهرجان" فرضه الأمريكيون على العالم بأسره، في مناسبة الذكرى الأولى لحادث الحادي عشر من سبتمبر، حيث تحولت الكرة الأرضية إلى سرادق كبير تبادلت فيه شعوب العالم العزاء واستعادت شريط ما جرى، ولم تكف عن الجدل حول الحدث بوقائعه وتداعياته وعبرته. وإذ اعتبر الحادي عشر من سبتمبر تقويماً جديداً، في مقام الهجري والميلادي والقبطي، وصار الحديث عن عالم ما بعد سبتمبر أمراً عادياً كأنه حديث عن عصر ما بعد ميلاد السيد المسيح، فان الأمريكيين في نجاحهم الذي حققوه على صعيد "عولمة" الحدث، ذهبوا إلى حد إقناع العالم بأن الإرهاب خطر يهدد الكون، متقدماً على الفقر والجوع والإيدز والملاريا، وغير ذلك من المصائب الحقيقية التي تحصد الملايين كل عام. ولكن لأنهم ليسوا أمريكيين ولا من الجنس الأبيض، فقد تراجعت أهميتهم، بعدما عمم على الكافة شعار "لا صوت يعلو فوق صوت الحزن الأمريكي".
لقد أنستنا القوة السياسية الأمريكية والقدرة الإعلامية الجبارة التي توفرت لهم حقيقة أن ما جرى في 11 سبتمبر هو حدث أمريكي بامتياز. وإذا كان بعض العرب والمسلمين قد تورطوا فيه، فان الدائرة تتسع قليلاً لتشمل أولئك الذين يثبت ضلوعهم فيما جرى، هم وجماعتهم التي ينتسبون إليها، في أبعد الفروض. وبعد ذلك لا علاقة لعموم العرب أو المسلمين بالموضوع، وليس هناك ما يبرر شعورهم بالذنب بسببه. كما انه ليس هناك ما يسوغ إشاعة التوتر وتعميم الحزن على الجنس البشري من جرائه.
لقد جرى تشويه الوعي العام، إلى الحد الذي فرض على الناس في بلادنا أن ينشغلوا بالحزن الأمريكي عن قائمة همومهم وأحزانهم الطويلة، ولست هنا أقلل من شأن الحزن الأمريكي، فما جرى في 11 سبتمبر كارثة وفجيعة بكل معيار، لكنني فقط اشدد على أمرين، الأول أن موقفنا إزاء ما جرى هناك لا يتجاوز حدود المواساة والمشاطرة التي تفرضها المشاعر الإنسانية الطبيعية، والثاني أن لدينا كوارث وأوجاعا اشد وأنكى مما حدث في أمريكا، شاخصة امام أعيننا في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير.. الخ، ذلك فضلاً عن همومنا العالمثالثية التي سبقت الإشارة إليها (الفقر والجوع والتصحر والملاريا والإيدز والتلوث وغير ذلك).
أن الأمريكيين أقاموا الدنيا وأقعدوها لان ثلاثة الاف شخص قتلوا في الهجوم على نيويورك، ولكن حين قتل ثلاثة الاف هندي، وتسمم 200 ألف آخرين، بسبب الإهمال الذي أدى إلى تسرب الغاز من مصنع للأسمدة يملكه أمريكيون في مدينة "بوبال" الهندية (عام 1984)، حين وقعت تلك الواقعة فان الأمر مر بهدوء وعولج بأعصاب باردة، ولا تزال الولايات المتحدة ترفض تسليم المتهم الرئيسي في الكارثة، وهو رجل أعمال أمريكي. ولا مقارنة بين الهستيريا التي أصابت العالم من جراء الهجوم على البرجين الأمريكيين، وبين ذلك الهجوم الذري الذي شنته الولايات المتحدة على المدينتين اليابانيتين هيروشيما ونجازاكي في الحرب العالمية الثانية. وهو ما أدى إلى إبادة اكثر من 260 ألف شخص وإصابة أجيال اليابانيين في المدينتين بتشوهات ما زالت مستمرة إلى الآن.
(4)
احتفظ باستطلاع مصور نشرته مجلة "المجلة" اللندنية في شهر مارس الماضي سجل احتفال الأمريكيين بأبطال سبتمبر من "الكلاب". وهي الكلاب الملحقة بأقسام الشرطة والنجدة في نيويورك ونيوجيرسي، وشاركت "بشجاعة" في البحث عن ضحايا انهيار مركز التجارة العالمي. وقد أقيم الاحتفال الكبير في حديقة ميدان ماديسون بمانهاتن لتكريم من بقي حياً من أولئك "الأبطال"، شارك فيه ابرز نجوم السينما الأمريكية، الذين ظهروا في الصور وقد احتضن كل نجم او نجمة منهم كلباً. كما شاركت في الاحتفال بعض الشركات الكبرى وبعض محطات التليفزيون، التي تبنت حملة دعائية واسعة النطاق لجمع الأموال من اجل رعاية أولئك "الأبطال" وحسن تدريبهم، لكي يؤدوا دورهم في تأمين المجتمع وحراسته. وأثناء الاحتفال وفي خلفيته، رفع شعار "نحن نحب الكلاب"، جنباً إلى جنب مع الشعار الذي رفع في أعقاب الهجوم، وكانت كلماته تقول "أنا احب نيويورك".
ومع حلول ذكرى 11 سبتمبر، وقبل عدة أيام من الموعد، نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" موضوعاً حول المشاكل التي تواجه المدرسين الأمريكيين في تحديد ما الذي يجب قوله للتلاميذ في 11 سبتمبر، وهو ما علق عليه توماس فريدمان الكاتب بنفس الجريدة، مقترحاً إلقاء ثلاثة دروس تجيب عن ثلاثة أسئلة هي: من فعلها؟ ومن نحن؟ ولماذا يدين العديد ما جرى ولكنهم يكرهون أمريكا؟.
أمثال هذه الممارسات تمثلت في جانب منها محاولة للإجابة عن السؤال: كيف يكون الاحتفال بكل عناصر المناسبة، وكيف يزرع الحدث في وجدان الأجيال الجديدة. وهي تفترض انه قبل تكريم الكلاب جرى تكريم كل البشر الذين اسهموا في عملية الإنقاذ، كما تفترض أن المجتمع كله قد تمت تعبئته واستنفاره وإذكاء وعيه بالحدث، وبقي أن تكتمل الدائرة بتلقين تلاميذ المدارس دروساً حول ما جرى في 11 سبتمبر. وتلك كلها مراحل متقدمة عما نفكر فيه مع حلول ذكرى السنة الثانية لاندلاع الانتفاضة، ناهيك أن بعض ممارسات الأمريكيين تعد من قبيل الترف الذي لا نملكه ومن ثم لا يخطر لنا على بال.
على صعيد اخر فانه يحز في نفس المرء أن يقول اننا لم نبلغ بعد مرحلة طرح السؤال كيف؟، وإنما ليست لدينا إجابة واضحة ينعقد من حولها الإجماع، في صدد السؤالين هل؟ ولماذا؟، الأمر الذي يجسد جانباً من محنة النخبة في بلادنا، التي تشرذمت وانفرط عقدها، حتى اختلفت في أصول العمل الوطني ناهيك عن فروعه.
(5)
ليس عندي كلام مع الذين يطرحون السؤال "هل"، خصوصاً أولئك الذين يمطون شفاههم وهم يتحدثون عن الانتفاضة، ويعتبرونها "حماقة" ارتكبها بعض "المتطرفين" وشارك فيها نفر من "الإرهابيين"، الذين ضيعوا فرصة السلام وساعدوا على مجيء شارون في نهاية المطاف. فهؤلاء ليسوا طرفاً في المناقشة التي نجريها، بل انهم ليسوا مشمولين بخطابناً أصلاً. إذ هم ليسوا "فلسطينيين" بالمعنى الذي ندعو إليه. لكن هناك ما يمكن أن نضعه بين أيدي الذين هم على استعداد للاقتناع، ممن يطرحون السؤال "لماذا"؟.
أزعم أن هذه الانتفاضة لها خصوصية تميزها عن سابقاتها تبرر الحفاوة بها. وهذه الخصوصية تتعلق في شق منها بالملابسات التي أحاطت بها، وفي شق آخر بوقائعها والنموذج الذي قدمته، وهو ما يحتاج إلى بعض الشرح والتفصيل.
@ فيما يخص الظروف، أشرت قبل قليل إلى عنصر الرعاية الأمريكية الصريحة للاحتلال والاستيطان، وهي التي كانت في السابق مقصورة على الدولة الإسرائيلية ومبدأ وجودها، وتبدي بعض التحفظ على ما يتجاوز تلك الحدود. وأضيف هنا ملابسات أخرى منها تراجع الدور الأوروبي، الذي اشعر الفلسطينيين بأنهم يقفون وحدهم. إذ رغم تمايز موقف بعض الدول الأوروبية إزاء بعض الممارسات، إلا أنها لم تعد مستعدة لان تتحرك في النهاية بعيداً عن الموقف الأمريكي. من تلك الملابسات أيضاً - ربما كان أهمها - أن الانتفاضة انطلقت بعدما أعطيت كل الفرص لما سمي بالمسيرة السلمية، وثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن اسرائيل غير جادة في إحلال سلام يلبي الحد الأدنى من المطالب الفلسطينية، وأنها تستخدم المسيرة لتكريس التوسع وتقنين الاحتلال (كانت محادثات كامب ديفيد الثانية، التي عرضت فيها لأول مرة مسألة تقاسم المسجد الأقصى، قد فشلت في التوصل إلى اتفاق حول التسوية النهائية، وعقدت المباحثات في يوليو 2000 والانتفاضة انطلقت في شهر سبتمبر في ذات العام).
@ في الشق المتعلق بوقائع ومشاهد الانتفاضة نجد أنها تميزت بأمور عدة في مقدمتها: أنها استمرت مدة أطول من أي انتفاضة سابقة، في حين أن انتفاضات التسعينيات كانت كل واحدة منها تستمر لأشهر معدودة. ثم أنها اتسمت بدرجة عالية من الإصرار والتضحية والفداء، من الارتفاع غير المسبوق للعمليات الاستشهادية (120 عملية حتى يوم الأربعاء الماضي 18/9 أوقعت 625 قتيلاً إسرائيلياً، وهو ما لم يحدث من قبل في أي مرحلة من مراحل الصراع). ليس ذلك فحسب وإنما يحسب للانتفاضة أيضاً أنها نقلت المعركة - والخوف معها كما قلنا - إلى قلب المجتمع الإسرائيلي لأول مرة. في الوقت ذاته فان عمليات المقاومة الفلسطينية اتسمت بدرجة عالية من الكفاءة والثقة والقدرة على تحدي السلاح والصلف الإسرائيليين، وهو ما شهدت به معركة جنين الخالدة - من ناحية أخرى فيحسب لهذه الانتفاضة أنها محل إجماع ومشاركة فعالة من جانب كل القوى الوطنية الفلسطينية، وهو ما يحدث لأول مرة. ليس ذلك فحسب، وإنما اعتمدت تلك القوى أسلوب العمليات الاستشهادية سبيلاً إلى المقاومة وردع العدو (كتائب الأقصى التابعة لفتح والجبهة الشعبية) ولم تعد تلك العمليات مقصورة على حركة حماس والجهاد الإسلامي، وهذا التطور بالغ الأهمية هزَّ المجتمع الإسرائيلي وقلب حسابات النخبة الحاكمة، وأثار انزعاج الإدارة الأمريكية حتى تولى الرئيس بوش قيادة الحملة العالمية ضد العمليات الاستشهادية - هذا الإجماع الوطني الفلسطيني الذي افرز تلك الدرجة العالية من الكفاءة وفاعلية الأداء كان له صداه القوي في الشارع العربي والإسلامي الذي شهد إجماعا آخر غير مسبوق، مما دعانا إلى القول ان الانتفاضة أعادت تعريب القضية الفلسطينية، وأخرجتها من الإطار القطري الضيق الذي حشرت فيه طيلة العقد الأخير على الأقل.
والأمر كذلك، فلست أبالغ اذا قلت ان انتفاضة الأقصى تشكل نقطة ضوء، بل علامة فارقة، في مسيرة النضال الفلسطيني والعربي بعامة، وهو ما يفسر إلى حد ما المحاولة الإسرائيلية والأمريكية الشرسة لسحقها.
وفي مناسبة حلول الذكرى الثانية لتلك الانتفاضة، لا اقل من أن نعلن وقوفنا معها في اللحظة التي يحاولون اجهاضها وخنقها، فنهتف جميعاً قائلين: كلنا فلسطينيون. وحين يتحقق ذلك، فانه سوف يشجعنا على أن نتساءل في وقت لاحق: ماذا سنقول لتلاميذ مدارسنا صبيحة الثامن والعشرين من سبتمبر.؟!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.