لا تزال المظاهرات المستعرة في جغرافية ما تسمى إيران منذ 28 ديسمبر 2017 والتي تعتبر الحدث الأهم إقليميا وربما عالمياً. فلأول مرة منذ 39 سنة تنتفض كافة الشعوب والقوميات في تلك الجغرافية عفوياً لتعلن بكل شجاعة وحزم عن رفضها لنظام الملالي القابع على صدورهم بكل ما يمثله من إجرام وانتهاك للحريات والقوانين وتبديد للثروات والفساد المالي والأخلاقي والرشوة وانتشار المخدرات والبطالة المرتفعة جداً لمستويات تصل ل 60% في بعض المحافظات التابعة للشعوب المغتصبة أرضها. ذلك النظام الذي يتفاخر بتصديره لثورة بائسة والتي لم ير احد منها سوى الفتن ونشر الدمار والخراب ومحاولات مستميتة لضرب الدول العربية في الجوار كما هو حال سوريا واليمن كأوضح صور لهذا الحقد والعنصرية على العرب والدول العربية. فثورة الشعوب سنة 1979 نفسها جاءت نتيجة تخطيط خارجي محكم وجيء بالخميني من باريس بعد طرده من العراق بأقل من 4 شهور! فالغرب احضر الخميني بعد أن انتهت صلاحية شاه إيران الذي لم يستوعب درس طرد الغرب لوالده عام 1941 ونفيه ومنعه من دخول إيران مرة أخرى رغم كون ولده (محمد رضا) هو الملك أو ملك الملوك كما كان يحلو له أن يلقب! والخميني استعان بكافة المكونات من قوميات وأحزاب لتثبيت حكمة. في حين استعان بجلاوزته لينشر الإعدامات الدموية الكثيرة على يد قاضي قضاة محاكم الثورة صادق خلخالي، وينشر الخوف والقمع بتأسيسه جيشاً عقدياً هو الحرس الثوري ليضع على رأسه الشاب حينها محسن رضائي ذو ال 27 عاماً فقط. إلا أن مريدي الخميني من معممين لاسيما صغار بالسن منهم حينئذ استغلوا الفرصة السانحة وتقاتلوا على المناصب وقتلوا بعضهم بعضا. فرفسنجاني احضر صديقه خامنئي (المرشد الحالي للدولة وصاحب السلطات المطلقة) والخطيب المتواضع في تلك الفترة في احد مساجد مدينة مشهد التي انفجرت منها ثورة الجياع الحالية ليجعله المرشد للدولة سنة 1989 لكن خامنئي انقلب عليه وقتله في جريمة مريبة مر عليها عام فقط وتم اكتشاف أن مواد مشعه استخدمت للاغتيال! كما طحنت الثورة كبار رجالها مثل المعمم والسياسي والخطيب المفوه (بهشتي) والذي اغتيل بتفجير لمقر حزب الخميني بعد خروج رفسنجاني بخمس دقائق ليتم القضاء على أكثر من 70 نائب في ذلك الانفجار الدموي، وتمت محاربة أول رئيس جمهورية منتخب (أبو الحسن بني صدر) ليهرب لفرنسا ويطلب اللجوء السياسي كما هرب مسعود رجوي رئيس منظمة مجاهدين خلق السابق، في حين تم اغتيال العلماء الشيعة الكبار مثل كاظم شريعتمداري (التركي الاذري) ومحمود طالقاني، والفيلسوف مطهري في بدايات الثورة! ولا تزال تلك الجرائم لم تكتشف أسرارها وتفاصيلها ليومنا هذا. بل أن احمد ابن الخميني نفسه اغتيل بالسم بتغيير حبوب دوائه بعد وفاة والده مباشرة لكي لا يزاحمهم على السلطة! وحاول الملالي في طهران بث الدماء الجديدة في نظامهم بجعل رئيس الجمهورية إصلاحي تارة مثل خاتمي ثم من هو متشدد كنجاد تارة أخرى وأخيرا روحاني كحل وسط بين الاعتدال والتشدد. لكن حبل الكذب قصير جداً فسياسة تغيير الوجوه كشفت زيف الادعاءات! فلم يتم ملاحظة أي تغيير في الدولة لا على مستوى الخدمات المقدمة للشعوب هناك، فالفقر يزداد ضراوةً والخدمات تتردى وتختفي، ولا على مستوى العلاقات الدولية المصابة بالتشنج المزمن مع فترات استراحة قصيرة للهدوء النسبي. وجاء خبر اعتقال نجاد يوم أمس ليضرب مصداقية المرشد علي الخامنئي في مقتل! فنجاد الذي كاد المرشد أن يقول فيه الشعر من فرط تأييده له ومساندته له أثناء الثورة الخضراء سنة 2009 واستباحة دماء الشباب والشابات لتثبت ولاية نجاد الثانية للرئاسة. نجد المرشد خامنئي نفسه من يقف ضد نجاد بعد أن فضح صادق لاريجاني رئيس السلطة القضائية. ويأتي من يتفاخر بنظام الملالي ويعتبرونهم كالأنبياء والصديقين. وكأنهم ليسوا من قاموا بإنشاء المليشيات والأحزاب الشيعية مثل فيلق بدر (العراقي اسماً فقط) سنة 1985 وحزب الله (اللبناني اسماً فقط) سنة 1982، ومليشيا الحوثي في اليمن، ومليشيات النجباء والحشد الشعبي الشيعي في العراق وغيرها كثير من المليشيات الأخرى في سوريا وباكستان وأفغانستان. وكأن الدول العربية لم تكن تعيش بعيدة كل البعد عن الطائفية والمذهبية قبل قدوم هذا النظام الشيطاني. والثورة الحالية هي ثورة جياع بامتياز فهي التي انطلقت من مدن وقرى ونواحي مختلفة لاسيما في مناطق الأطراف قبل المدن الكبرى واتسعت نطاقها، وكذب رئيس الحرس الثوري الجنرال محمد علي جعفري حين ادعى أن الثورة انتهت الأربعاء الماضي 3 يناير 2018. فهي لا تزال مستمرة يومياً وآثارها راسخة وقوية. فهناك معممين هربوا بحجة العلاج في الخارج كمحمود الشاهرودي (رئيس السلطة القضائية السابق)، وهناك تجار هربوا بعد أن هربوا أموالهم معهم للخارج. في حين أن العملة الإيرانية انهارت لتصل لأدنى مستوياتها منذ قيام الثورة. فلا يعقل بعد تلك الحقائق كلها إن يجتمع كافة القوميات على أمور مشتركة معاً في نقد النظام سياسياً واقتصادياً وحتى اجتماعياً ويكذبهم النظام! ولنا في ما رأينا من أمثلة صارخة دليل على مدى الحرمان والمعناة التي تعانيها الشعوب تحت نير حكم الملالي في طهران. فتلك السيدة في طهران التي تهين رجال الأمن أمامها وتقول أنكم تابعون للسلطة لأنهم يملؤن بطونكم وتشتكي من الحالة المعيشية لتنهي حديثها بالقول الموت لخامنئي بلا خوف ولا وجل! بعد أن كان الخامنئي له قدسية لم يتم مساسها بهذا الشكل المباشر ولم يكترث حتى رجال الأمن للرد عليها! لا سيما في ظل تسريبات ومزاعم بأن الجيش والشرطة وحتى الحرس الثوري والبسيج ملوا من كل شيء لما وصلت له الحياة المعيشية للناس من درجات متدنية جداً من الفقر والعوز والحاجة، وقد بدأت بعض الانشقاقات الفردية بينهم. أما المثال الثاني والذي حزنت لآجلة شديد الحزن فكان لتلك السيدة التي تبكي وتشتكي أما الكاميرا وتقول ما يعجر عنه اللسان. حيث قالت: تتساءل وتطلب الإجابة من الناس كيف لامرأة في بلد نفطي أنها تضطر لبيع جسدها لأجل 50 تومان (اقل من 12 دولاراً أمريكيا لتعيش وتطعم أولادها)! وهي تكره ان يمس جسدها غريب لكنها مرغمة على ذلك! وقارنت بين وضع النساء العربيات في (الدول العربية المجاورة) الذين ليس لديهم سوى النفط وكيف أن نسائهم في غير حاجة ولا ذلة ولا مهانة. في حين أنها (المرأة الإيرانية) والحديث لهذه السيدة التي من مدينة خرم آباد: بأننا لدينا النفط والغاز والذهب والماس والمعادن وكل شيء حتى سم الثعابين فنحن أثرياء لكننا في حاجة لبيع أجسادنا، وتتساءل مرة أخرى، كيف هو حال الأبناء خصوصاً في ظل شدة الحاجة المادية السيئة والعوز. في حين أنها تذكر إن صاحب المنزل الذي تقيم فيه يطلب منها أن تغادر بيتها (لعدم مقدرتها المادية على سداد تكاليفه) في نفس اليوم بلا رحمة ولا شفقة. فهي اليوم وأبنائها في غيظ وعوز وانتم (أيها الناس) قد لا تكونين كذلك هذا العام لكنكم ستكونون كذلك العام المقبل. لقد أصبحت عاجزة بسبب إصبعي وبالتالي يدي، وأنا أبيع شرفي واكره أن يأتي أي شخص ويلمسني لكن منازل العفاف ( بيوت زواج المتعة الرسمية التي دعمتها الدولة) أصبحت كثيرة، وأصبح المدمنون كثيرين والعاطلين عن العمل كثيرين وأبنائنا مدمنون الشيشة (نوع من المخدرات منتشرة بكثرة في إيران). فإذا لم تكونوا قادرين على إدارة الدولة، اتركوا البلد، وخذوا ما شئتهم من البلد لكن اتركوها وغادروا، وذلك لأجل أن نصلح أجيالنا القادمة، وإلا إذا تستطيعون أن تصلحوا الأمور فأصلحوها. والمثال الثالث والاهم جاء من أستاذ جامعي تمت استضافته على قناة رسمية إيرانية ويدعى الدكتور حسن محدثي والذي ابتدأ بالإجابة على أول سؤال موجه له في برنامج حواري تم بثه على الهواء انه يضطر في اليوم التالي لإجراء أي لقاء له على التلفزيون إلى إجابة زملائه لماذا قبل أن يذهب لتلفزيون غير إنساني ويعتمد الكذب الدائم في منهجه الموجه للجمهور! فالنقد أصبح من الداخل لاذعاً. لاذعاً من الفقراء والمثقفين على حد سواء. وحتى من المعممين وأبناء المعممين الكبار في الدولة أمثال مهدي خزعلي! فنظام طهران عُرف عنه الكذب باستمرار، ولا يعرف ملالي قم وطهران كيف يستمرون بالسلطة دون كذب وغش وخداع واغتيالات وقمع وتكميم للأفواه فهذه هي أهم الأسباب التي دعت الناس للتجمهر والمطالبة فيما طالبوا بإسقاط النظام برمته وليس مجرد تغيير وجوه أو تقديم كبش فداء كما يشاع حالياً بأنه سيكون الرئيس السابق احمدي نجاد. فالناس ملت هذه الأساليب البوليسية والقبضة الأمنية التي أصبحت من الأنظمة التي عفا عليها الزمن مثل شاوشيسكو في رومانيا وباقي الديكتاتوريات المطلقة. في حين أن اغلب أبناء المسئولين الكبار وكبار ضباط الحرس الثوري يعيشون رغد العيش وينفقون ببذخ وإسراف بلا حدود فسياراتهم احدث موديلات سيارات بورش وفيراري وغيرها من ماركات عالمية غالية الثمن. كما أن هؤلاء الأبناء ايضاً أنفسهم من يعيشون في الغرب وبعضهم حصل على جنسيات أجنبية! أضف لذلك كله أن النظام لا يؤمن جانبه، فقد تكون من مسئولي الدولة اليوم وتكون عدوها غداً. فسعيد أمامي كان مسئولاً كبيراً في وزارة الاستخبارات ثم تم اغتياله وادعوا انه توفى وعندما هاجمتهم زوجته تم التحقيق معها بفضاضة وأسلوب فاحش (يوجد على اليوتيوب جوانب مصورة من التحقيق معها). وحفيد الخميني حسين سافر لأمريكا وفضح سياسات الدولة لكنه أعادوه واختفى بشكل مريب لليوم. ولم يكلف احداً نفسه بالسؤال عنه. فالدولة داخلها دول من حرس ثوري ومؤسساته العملاقة والتي تحاول أن تحتكر اقتصاد البلاد بين يديها وبذلك قضت على شرف المنافسة النزيهة في التجارة، فلا مجال لمعارضتها والعقود معها يمكن تغييرها دون الرجوع للطرف الثاني! والقضاء، وما أدراك ما القضاء. فيكفي أن تعلم أن له جهاز مخابرات مستقل تابع له! هذا فضلاً عن المتنفذين من عوائل مختلفة في السياسة والتجارة مثل عائلة لاريجاني والمتنفعين من ورائهم. فهل بقى بعد ذلك من شيء يخاف عليه المواطن في داخل هذه الجمهورية الإسلامية! وهل نلوم المواطن البسيط أن قام بثورة بعد انهيار كافة القيم والأخلاقيات وكافة سبل العيش الكريم في بلد وصل إنتاجه من النفط العام الماضي 4 ملايين ونصف المليون برميل يومياً. إنها ثورة جياع في إيران وليس غير ذلك!