سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
ياسمينة الشامية.. قصة اغتصاب الفتاة والبلد الأستاذ حسن يروي ل"الوطن" ثورة طلاب مدرسة في معرة النعسان * ضباط الجيش النظامي كانوا يوصلون عائلاتهم لتركيا قبل الانشقاق خوفا من التصفية
قضيت ليلة في مخيم كيليس، وأنا أستمع إلى عشرات الشهادات عن جرائم القتل والتهجير القسري والتعذيب والاغتصاب التي قام بها النظام، وواجهها الشعب السوري بكثير من التكاتف والإصرار على مواقفهم والإيثار والكرم والعطاء. قصص تعطيك قطبي الخير والشر في نفوس شعب واحد تكرس كل طرف منهما ليقدم أفضل ما لديه أو أسوأ ما لديه، في معركة لم يبق فيها محايد. فالساكت عن جرائم النظام أصبح من ضمن عناصر استمراره، لأنه قائم على خوف الجماهير وتخويفهم. السجن أو القبر مزقني الألم وأنا أستمع إلى القصص ودموع الضحايا تنسكب أمامي وعجزي يزداد مع كل قصة. لا أستطيع أن أمارس الحياد، فمارست دور الطبيب النفسي الذي غاب عن هذه المخيمات التي يعيش فيها جرحى ليس فقط في أجسادهم ولكن في نفوسهم، خاصة الأطفال، لم أستطع أن أنام.. كنت أمشي في ليل ذلك اليوم داخل القفص الكبير الذي أعطى الحياة لآلاف من النازحين السوريين إلى تركيا التي خافت على أمنها وشعبها فجعلته داخل أرضها، لكن من فيه لا يستطيعون الخروج منه، فكان سجناً مهما حاولنا تجميل صورته, غالبية من فيه يقدرون لتركيا موقفها في تأمينه لهم، لأن بدائله كانت السجن أو القبر. ما إن اقترب الصباح، وكنت لا أزال أحاول أن أنام لكن الأرق والكوابيس والبرد لم تعط جسدي ما كان يصرخ طالباً له. سمعت أذان صلاة الفجر، صليت مع الجماعة وقابلت مرافقي محمد العقلا الذي عاد للمخيم بعد أن غادره مساءً، قال لي هناك من يجب أن تقابلها، فتاة اغتصبت وتناوب على اغتصابها جنود قبل أن تهرب منهم. رفضت بداية، لأنني استمعت لعدة قصص مؤلمة بما يكفي، لكنه أكد لي أن هذه القصة مختلفة، وافقت فكان موعد لقائي مع الفتاة في السادسة صباحاً في خيمتها. وعند موعد المقابلة كان معي محمد العقلا مرافقي، تفاجأت بوصول مسؤول من المخيم رافقه شخصان من الجيش الحر ورجل قال إنه من قريتها وشيخ يرافقه نحو أربعة آخرون، فكان مجموعنا 11 شخصاً، ضحكت وقلت لهم: "عندما قابلت مسؤولي الجيش الحر والمجلس الوطني لم يكن معهم هذا القدر من المرافقة، ماذا يجري هنا؟ فقال لي الشاب من الجيش الحر: "صباح الخير أنا براء وهذه الفتاة قتل أهلها وعانت وكانت ترفض الحديث إلى الصحافة ولم ينجح عناصر الجيش الحر في سحب جثامين عائلتها إلا بعد أربعة أيام من هروبها، وقد انتقمت لها بنفسي، ونحن الآن عائلتها ونريد أن نكون معها". هززت رأسي بالموافقة وأنا في داخلي رافض لهذا الوضع، وما إن وصلنا الخيمة حتى تفاجأت بطفلة محجبة، نظرت لي نظرة خاطفة وأنزلت عينيها إلى الأرض وبخاصة أنني كنت برفقة هذا الحشد. وبعد السلام عليها وإحضار بعض الحاجيات والطعام البسيط لها، طلبت أن أبقى معها برفقة الشيخ فقط لحديث قصير. وافق بعدها الجميع على ذلك على أن ينتظرونا خارج الخيمة. طفلة بملابس شيخة شعرت أنها ارتاحت بالوضع الجديد، لكنها لا تزال بعيدة عن الحديث معي. خيمتها الخالية من كل شيء باستثناء سجادة وسرير اسفنجي صغير، فستانها الأزرق الغامق فشل في إعطائها مزيدا من العمر، فهي لا تتجاوز الخامسة عشرة، لكن الهموم تسيطر عليها، وشحوب في وجهها يبين أنها لا تنام. براءة تملأ وجهها المثلث بذقنها الحاد وعينيها الواسعتين، فيما يجعلها الحجاب الملون الذي تغلب عليه الألوان الحمراء وكأنها فتاة من الريف التركي، حتى علمت أن هذه الملابس من مساعدات أهالي القرى التركية المحيطة بالمخيم. لكنها في الخلاصة طفلة صغيرة نحيلة جدا، بيضاء البشرة في ملابس شيخة عجوز وتعاني من جروح غائرة. فكرت أن علي أن أبادر بكسر الحواجز، فقلت لها: "لقد كنت في سورية، الوضع هناك سيئ". فقالت :"حقاً وماذا عملت هناك؟". فقلت لها: "شاهدت الوقائع لأنقلها للعالم". فقالت: "سأختصر عليك قصتي وقصة سورية، فكلتانا مقتولتان وكلتانا مغتصبتان. أنا من معرة النعسان وأبي كان في طريقه لتهريبنا إلى تركيا، لأنه يريد الانشقاق، تفاجأنا بكمين لقوات الأمن سريعا ما علموا هدفه، لأنه ضابط خارج ثكنته يغادر مع أبنائه إلى تركيا، فقتل على الفور أمامي وقتل أخي الأكبر وهاجمتهم والدتي فكان مصيرها ذات المصير. كنت مصدومة فركضت لكنهم سرعان ما وصلوا إلي". الموبايل الشاهد توقفت عن الحديث وبدأت تبكي بحرقة وهي تقول:"آه يا أمي". غالبتني دمعة فيما حاول الشيخ التماسك، وقال لها: "اذكري الله ما تنسي شو قلتلك". لم أقاطعها، وقالت: "صحيح الحمد لله الذي اختارهم شهداء لكنه لم يخترني.. اغتصبوني لساعات وكان أحدهم يرفض اغتصابي فيجبرونه على الاعتداء علي وأنا اقول لهم "من شان الله خلوني، ما عندكم أخوات ما عندكم بنات، فصفعني الضابط وقال خواتي (ساقطات) سأجعل منك ساقطة. قلت انت ما بتخاف الله سينتقم منكم في الدنيا والآخرة، فقال لي لا، لا أخاف من أحد". عادت للبكاء بصوت عال قالت: رموني بعد أن اعتدوا علي وبدأ الضابط في الغناء في أناشيد دينية غريبة وهو يشرب العرق ويجبر من معه على التصفيق على أناشيده وعلى الشرب معه وبعضهم يصورون كل شيء بجوالاتهم لأنهم يفتخرون به أمام ضباطهم.. وبعد ساعات ناموا فهربت، ووجدني شباب من الجيش الحر فأوصلوني وعادوا إلى سورية يبحثون عن الكمين حتى نصرهم الله وكان براء على رأسهم فانتقموا لي وقتلوا كل من كان في المفرزة ودفنوا أبي وأمي وأخي بعد أربعة أيام". ثم أعطتني جهاز "موبايل" كان بيدها وقالت: شاهدهم بنفسك، هذا الجهاز يشهد على جريمتهم التي انتقم لي أخي براء منهم". وبدأت في البكاء، كنت أريد أن أقول لها إن سورية الجديدة يجب أن تقوم على فكرة التسامح، لكني لم أتجرأ، وكان الصوت العالي في رأسي سعيداً بالانتقام من قتلة عائلتها ومغتصبي هذه الطفولة، فقلت لها، ما اسمك؟ فقالت "ياسمينة الشامية". لم أسألها هل هذا اسم أم لقب لها، أم إنه رمز لاغتصاب الشام كلها من عصابة الأسد؟ "واااا عبدالله" سألتني: "هل أنت سعودي؟" فقلت لها: "نعم"، فصرخت وبدأت في البكاء: "وااااا عبدالله واااا عبدالله". أعطيتها مبلغاً من المال وأنا خارج من خيمتها فرضت وقالت: "اعطها للثوار ليشتروا رصاصاً، أنا لا أريد فلوساً.. لا توجد فلوس يمكن أن تعيد لي أبي وأمي وأخي وبيتي وبلدي". تجرعت الهزيمة وخرجت وأنا لا أعلم من منا الكبير ومن هو الصغير في هذه الخيمة. جاء براء وأحضر لي الجوال وقال: شاهد المجرمين، لقد حذفنا المقاطع التي يتناوبون فيها على اغتصاب ياسمينة، لكن شاهدهم المجرمين قتلناهم لأنهم مرتزقة. الآن لم نعد نقبل بالسياسة ولا المسامحة ولا العفو، يريدونها معركة قذرة، سنعطيهم معركة، لا نخاف فيها من شيء، لدينا الهدف وهم لا هدف لهم، لأنهم عبيد يخافون أسيادهم ويقاتلون لأجل عصابة مجرمة سرقت البلد، لكننا نحارب لأجل نصرة أهلنا وحمايتهم". سألته عن العائلات والأطفال، فقال "غالبية عناصر الجيش الحر يرسلون عائلاتهم إلى المخيمات قبل الإعلان عن انشقاقهم أو الانضواء بجيش الشعب الحر لحمايتهم من نذالة العناصر الأمنية والشبيحة الذين يبتزون ببناتنا وأخواتنا، إنهم يعطون أسوأ صورة عن العرب والعروبة والإسلام". أكاذيب البطولة في تلك الأثناء عرفني إلى الأستاذ حسن الذي قال لي: "كنت محايدا، لكني ككل سوري أريد التغيير، لكن الأمن والشبيحة والجيش هاجمونا واعتقلوني وضربوني لأن أخي كان مع الجيش الحر، وعند إطلاقي كانت المدينة محررة وأنا قلبي امتلأ كرها لهذا النظام، فمزقنا صور الدكتاتور الأسد التي كانت تملأ جدران المدرسة، ووجدت أن طلابي أكثر شجاعة مني.. يذهبون للمدرسة وهم يصرخون للحرية، فتوقفنا عن تعليم الأكاذيب في مناهجنا وحذفنا منها أكاذيب البطولة الزائفة لبيت الأسد، فيما كنا جميعا نعلم عمالته لأميركا وإسرائيل ومؤامرة دخوله للبنان مقابل طرده المقاومة الفلسطينية وتسليمه الجولان لإسرائيل وتنازله عن لواء اسكندرون لتركيا، صوره وصور والده المجرم الأول وتماثيلهم سقطت من الشارع والمدرسة ومن عقولنا التي غسلناها من هذه الأكاذيب والسلطة والأوهام والعبودية". قوافل الموت وأضاف: "عندما تطورت الأمور وصارت معرة النعسان جزءاً من الطريق الذي مرت به قافلة الموت التي نفذها الجيش السوري لاستعادة سيطرته على المدن والبلدات. المدينة دمرت، وكذلك المدرسة التي كانت قد تحررت أخيراً بثورة طلابنا الأبطال الذين لم يكن يناسبهم العيش بذات الخوف الذي عشنا به ورضينا به، إنها الثورة. تحررنا من العبودية والانغلاق الفكري والثقافي والسياسي والاستغلال والفساد الاقتصادي، نريد مستقبلاً أفضل لأبنائنا دون بيت الأسد أو مخلوف، نريد مستقبلاً أفضل". استمعت قبيل مغادرتي المخيم إلى عشرات القصص الأخرى التي كررت مطالب شعب أراد الحياة، فخرجت منه وأنا كلي أمل بأن تنتهي مأساة هذا الشعب الذي استيقظ بعد سبات طويل فعوقب على أنه قرر أن يستيقظ، طوال الطريق كنت أفكر في قصة "وااامعتصماه" وياسمينة الشامية التي انتخت بالملك عبد الله بن عبد العزيز وسعود الفيصل وكيف سأكتب ذلك في الصحافة، تلك القصص جعلتني أفكر وأتألم في آن، كيف أني أعيش طعم الحرية وأشعر بالتعب وهم مسجونون في الداخل والخارج بعد أن كانوا أحرارا".