هيأ الغزو الأميركي للعراق والإطاحة بنظام صدام حسين عام 2003 فرصة تاريخية لإيران لتغيير مسار علاقتها مع العراق، الذي كان سابقا من أشد أعدائها. فقد استغلت إيران الحدود الطويلة التي يسهل اختراقها مع العراق وعلاقاتها طويلة الأمد مع سياسيين عراقيين وأحزاب وجماعات مُسلَّحة عراقية، فضلاً عن قوتها الناعمة المتمثلة في المجالات الاقتصادية والدينية والإعلامية، لتوسيع نفوذها وبالتالي ترسيخ مكانتها كوسيط القوة الخارجي الرئيسي في العراق. وقد نشر "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى" في أواخر أبريل الماضي دراسة حول النفوذ الإيراني في العراق تناول فيها كُتاب الدراسة: مايكل آيزنشتات، ومايكل نايس، وأحمد علي، الحلفاء السياسيين لإيران في الداخل العراقي، والميليشيات العراقية الموالية لإيران، والقوة الناعمة. وقدَّم الباحثون مجموعة من التوصيات السياسية في نهاية الدراسة. الحلفاء السياسيون حاولت إيران التأثير على سياسات العراق من خلال العمل مع الأحزاب الشيعية والكردية لخلق دولة فيدرالية ضعيفة تُهيمن عليها الشيعة وتتقبل النفوذ الإيراني. وشجَّعت إيران حلفاءها المقربين، "المجلس الأعلى الإسلامي العراقي" وميليشيته السابقة "منظمة بدر" و"حزب الدعوة الإسلامي" وكذلك "الصدريين" مؤخرا، للمشاركة في الحياة السياسية والمساعدة على تشكيل المؤسسات الوليدة في العراق. تهدف طهران من توحيد الأحزاب الشيعية في العراق إلى ترجمة ثقل الشيعة الديموجرافي (نحو 60% من سكان البلاد) إلى نفوذ سياسي، وبذلك تعزز من سيطرة الشيعة على الحكومة. وتحقيقا لهذه الغاية، حاولت إيران التأثير على نتائج الانتخابات البرلمانية عامي 2005 و2010 وكذلك انتخابات 2009 الإقليمية من خلال تمويل مرشحيها المفضلين وتقديم المشورة لهم وتشجيع حلفائها الشيعة على خوض الانتخابات تحت قائمة موحَّدة لمنع تقسيم أصوات الشيعة. كما سعت طهران إلى الحفاظ على علاقاتها الجيِّدة بصفة تقليدية مع الأحزاب الكُردية الرئيسية لتأمين نفوذها في أجزاء من شمال العراق. وتمارس طهران نفوذها من خلال سفارتها في بغداد وقنصلياتها في البصرة وكربلاء وأربيل والسليمانية. كما أن كلا من سفيريها اللذيْن عُينا بعد عام 2003 كانا قد خدما في "قوة القدس" التابعة ل"فيلق الحرس الثوري الإسلامي"، وذلك يؤكِّد الدور الذي تلعبه أجهزة الأمن الإيرانية في صياغة وتنفيذ السياسة الإيرانية في العراق. لقد كان تشكيل الحكومة الثانية في ديسمبر 2010 برئاسة رئيس الوزراء نوري المالكي بمثابة مرحلة بارزة في جهود إيران لتوحيد حلفائها السياسيين الشيعة في العراق. إلا أن هناك ما يبرهن على أن هذه الحكومة غير مستقرة، حيث إنها تجمع بين أحزاب مختلفة انخرطت في صراعات عنيفة في الماضي غير البعيد. ولذلك لا يزال علينا أن نرى فيما إذا كانت طهران ستنجح في النهاية في تدعيم عملائها الشيعة المنقسمين وتحويلهم إلى جبهة سياسية مستدامة وموحَّدة أو ما إذا كانت جهودها للقيام بذلك ستبوء بالفشل في النهاية. الميليشيات على الرغم من أن إيران شجَّعت حلفاءها السياسيين العراقيين منذ عام 2003 على العمل مع الولاياتالمتحدة والمشاركة في العملية السياسية الديموقراطية الوليدة، إلا أنها قامت بتسليح وتدريب وتمويل الميليشيات الشيعية والمتمردين الشيعة، وفي بعض الأحيان السُنَّة، للعمل تجاه إنزال هزيمة مهينة بالولاياتالمتحدة بحيث تردع التدخلات العسكرية الأميركية المستقبلية في المنطقة. وربما تكون إيران قد استخدمت وكلاءها من المحاربين الشيعة المُسلَّحين لإذكاء التوترات الطائفية والتحريض على العنف السياسي، لكي تتقدم بعد ذلك بوساطة دبلوماسية لحل هذه الصراعات، الأمر الذي يضمن لها دورا كوسيط في العراق. إن هذه الجماعات المسلحة تزود طهران أيضا بمصدر نفوذ بديل إذا ثبت أن حلفاءها السياسيين لا يمكن الوثوق بهم، وتوفر لها وسيلة للانتقام من القوات الأميركية في العراق في حالة تعرُّض المنشآت النووية الإيرانية لهجوم من قبل الولاياتالمتحدة أو إسرائيل. وبحلول عام 2010، ضيّقت إيران نطاق دعمها وقصرته على ثلاث جماعات شيعية مسلحة وهي: "لواء اليوم الموعود" (خليفة "جيش المهدي") التابع لمقتدى الصدر وجماعتان خاصتان: "عصائب أهل الحق" وكتائب "حزب الله". لكن ثبت أن دعم إيران ل"جيش المهدي" ينطوي على صعوبات خاصة، حيث إن أجندة الميليشيا المتطرفة وتنافسها على السُلطة داخل المجتمع الشيعي سرعان ما أدخلها في صراع مع "المجلس الأعلى الإسلامي العراقي" والحكومة العراقية، مما قوَّض من الجهود الإيرانية لتوحيد المجتمع الشيعي. وبعد انسحاب الجيش الأميركي من العراق، ربما تستخدم طهران دعمها لهذه المليشيات الشيعية والجماعات المتمردة للضغط على الحكومة العراقية من أجل الحد من علاقتها مع الولاياتالمتحدة وكمصدر للتأثير في قضايا أخرى. وقد تحاول أيضا بعض الجماعات الخاصة التي ترعاها إيران أن تبسط نفوذها في الشارع وتستخدم أنشطة المقاومة السابقة التي اضطلعت بها ضد الولاياتالمتحدة كمدخل إلى الحياة السياسية. وإذا ما حدث ذلك، فإن من المرجَّح مرة أخرى أن تقوم طهران بفصل العناصر المتطرفة عن هذه المنظمات لتشكيل جماعات خاصة جديدة. القوة الناعمة عززت إيران من روابطها التجارية والاقتصادية مع العراق للحصول على مكاسب مالية وتحقيق القدرة على التأثير على جارتها. وقد أوردت التقارير أن التجارة بين الدولتين بلغت 7 مليارات دولار عام 2009، على الرغم من أن الميزان التجاري لا يزال في صالح طهران بشكل كبير. ومن خلال إغراق العراق بمنتجات وسلع استهلاكية رخيصة ومدعومة، قوضت الجمهورية الإسلامية من القطاعات الزراعية والتصنيعية لجارتها، وتسببت في إثارة استياء العراقيين. إن بناء إيران للسدود وتحويلها للأنهار التي تغذي المجرى المائي لشط العرب أضر بالزراعة العراقية في الجنوب وأعاق جهود إحياء الأهوار في العراق. وعلى الرغم من أن إيران عوضت من نقص الكهرباء في العراق من خلال توفير نحو 10% من احتياجات البلاد، إلا أن العديد من العراقيين يرون أن إيران تتلاعب بهذه الإمدادات لأغراض سياسية. من ناحية ثانية، كان أحد أهداف إيران الرئيسية منذ الثورة الإسلامية هو تأمين سيادة أيديولوجيتها الرسمية في المجتمعات الشيعية في جميع أنحاء العالم. ومن خلال دعم الملالي الإيرانيين المدربين في قُم والمتعمقين في الفكر الإسلامي الرسمي لحُكم الملالي، بدلا عن رجال الدين المدربين وفق الأسلوب التقليدي الأكثر هدوءا للحوزات الدينية في النجف، قد تكون إيران مستعدة الآن لتحقيق هذا الهدف، عبر الاستخدام المفرط لأموال الدولة من أجل تمويل أنشطة ملاليها المسيّسين. لقد أصبحت العراق وجهة رئيسية للسياح الدينيين الإيرانيين. إذ يزور نحو 40 ألف إيراني المدن المقدسة في العراق شهريا، كما تشير التقديرات إلى أن نحو ثلاثة إلى أربعة ملايين شخص يزورون العراق أثناء الاحتفالات السنوية بذكرى عاشوراء. كما أن النجف، وهي مركز تقليدي للعالم الشيعي ويبرز نجمها كمركز سياسي عراقي هام وربما تأتي بعد بغداد مباشرة، قد أصبحت محط تركيز الاستثمارات الإيرانية التي تفيد على نحو غير متناسب، حلفاء طهران من السياسيين المحليين. وبهذه الطريقة تشتري إيران نفوذها في العراق. تسعى إيران إلى الفوز بعقول وقلوب العراقيين من خلال الأنباء والبرامج الترفيهية باللغة العربية التي تعكس وجهة نظر طهران حول الأخبار المتعلقة بالعراق والمنطقة. لكن جهود الدعاية هذه لم تلق سوى نجاح محدود ولم تتمكن من التعويض عن الأعمال الإيرانية التي أسفرت عن رد فعل معادٍ لإيران، حتى في المناطق الشيعية. فمنذ عام 2003، أبرزت بيانات الاستطلاعات بصورة مستمرة أن أعدادا كبيرة من العراقيين (بما في ذلك الشيعة) يعتقدون أنه كان لإيران تأثير سلبي في الغالب على السياسات العراقية ولا يرون أن نموذج الحُكم في إيران قابل للتطبيق في العراق. القيود على نفوذ إيران على الرغم من قيام طهران باستثمار موارد هائلة لتوسيع نطاق نفوذها في العراق، إلا أن النتائج التي حققتها متباينة. فقد كانت علاقاتها مع عملائها العراقيين حافلة بالتوترات والعنف، وأمضت إيران الكثير من الوقت والجهد للعب دور الوسيط وإدارة المشاكل التي ساعدت في إيجادها. إن تدخل طهران في السياسات العراقية كان عائقا سياسيا بصورة متكررة لحلفائها المحليين. وقد أخفقت طهران في منع التوقيع على "الاتفاقية الأمنية" و"اتفاقية الإطار الاستراتيجي" بين العراق والولاياتالمتحدة، على الرغم من أنها نجحت في إدراج بند في "الاتفاقية الأمنية" يضمن عدم استخدام العراق كنقطة انطلاق لشن هجوم على إيران. وأخيرا، عملت بعض سياسات طهران على تعزيز المشاعر المعادية للإيرانيين في العراق. فإلى جانب إغراق السوق العراقية بالمنتجات المدعومة وتحويل مسارات الأنهار التي تغذي شط العرب، فإن القصف المدفعي على القرى الكردية الشمالية بين الحين والآخر والاستفزازات، مثل الاحتلال الموقت في ديسمبر 2009 لحقل نفط "الفكة" في محافظة ميسان، لم تجعل إيران محبوبة من الجمهور العراقي. التوصيات السياسية لم تحقق محاولات إيران لبسط نفوذها في العراق حتى الآن سوى نتائج متباينة، على الرغم من أن تشكيل حكومة جديدة تتضمن العديد من حلفاء إيران والانسحاب العسكري الأميركي الوشيك من العراق سوف يمنح فرصة جديدة لكي توسع إيران نطاق نفوذها. ومن المحتمل أن يؤدي هذا التحرك إلى خلق المزيد من الدفع العكسي من العراق، على الرغم من أنه يبقى أن يُرى فيما إذا كان النفوذ الإيراني سيستمر في "تقييد ذاته" أو ما إذا كانت هذه الحقيقة الناشئة سوف تخلق فرصا جديدة لطهران لكي تحول العراق إلى دولة عميلة ضعيفة من خلال عملية متدرجة "للتحول إلى النموذج اللبناني". وعلى المدى الطويل، فإن طبيعة العلاقة بين العراق وإيران سوف تعتمد إلى حد كبير على الوضع الأمني في العراق والتركيبة السياسية للحكومة العراقية ونوع العلاقة طويلة الأمد التي تبنيها العراق مع جيرانها العرب والولاياتالمتحدة. وعلاوة على ذلك، فإن ظهور العراق مجددا كمُصدِّر رئيسي للنفط، وهو ما يرجح أن يكون على حساب إيران، من شبه المؤكد أن يؤدي إلى زيادة التوترات بين البلدين المصدِّريْن للنفط. وهكذا، فإن التقييمات التي تُظهر إيران بأنها "الرابح" الأكبر في العراق هي سابقة لأوانها، إلا أنها قد تثبت صحتها إذا لم تعمل الولاياتالمتحدة بكل نشاط وجهد لمواجهة النفوذ الإيراني هناك في السنوات المقبلة. ولهذه الأسباب، تحتاج واشنطن إلى مواصلة: • دعم جهود إرساء الاستقرار من قبل قوات الأمن العراقية. • الضغط لتهميش "الصدريين" وغيرهم من المتطرفين في الحكومة الجديدة. • بناء نوع العلاقة المبين في "اتفاقية الإطار الاستراتيجي" بين الولاياتالمتحدة والعراق. • المساعدة في تطوير قطاعات النفط والطاقة في العراق. إذا كان مستوى تعاطي الولاياتالمتحدة مع العراق بعد 2011 متواضعا، فمن شبه المؤكد أن إيران التي تتمتع بروابط أوثق وأكثر تنوعا وأكثر اتساعا مع العراق من الولاياتالمتحدة أو أي دولة في المنطقة سوف تسعى إلى توسيع نطاق نفوذها لتأكيد مكانتها كقوة خارجية بارزة في العراق، وستكون لذلك عواقب وخيمة على النفوذ الأميركي في جميع أنحاء المنطقة وعلى جهود الولاياتالمتحدة لردع واحتواء إيران التي تزداد جرأة. ويمكن تفادي مثل هذا الاحتمال وتعزيز المصالح الأميركية في العراق، فقط إذا استمرت الولاياتالمتحدة في إشراك العراق عبر مجموعة واسعة من الجبهات الدبلوماسية والاقتصادية والمعلوماتية والعسكرية ومواجهة منهج حكومة إيران الشامل تجاه جارتها العربية بمنهج حكومي شامل خاص بالعراق.