بعد أفول تجارة أباطرة التهريب عبر الأنفاق تحت أراضي قطاع غزة، بعد أربع سنوات سمان ازدهرت فيها تجارتهم بعد نجاحهم في تهريب الاحتياجات الضرورية لسكان القطاع وتعويض النقص الحاد فيها، عادت الروح مجددا هذه الأيام للرئة الوحيدة التي يتنفس منها الغزاويون. تجارة الأنفاق كانت خيارا وحيدا للحياة ومواجهة الحصار الخانق الذي فرضته إسرائيل في أعقاب فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية الفلسطينية وتمكنها من تشكيل الحكومة العاشرة. جماعات التهريب نجحوا في اختراع بدائل جديدة لتنشيط تجارة تهريب البضائع من مصر عبر أنفاق حفرها الفلسطينيون في باطن الأرض لتستوعب تهريب بضائع أكبر حجما، وتكفي حتى لتهريب السيارات، التي تجد رواجا بين السكان المحاصرين ومنع حكومة الاحتلال دخولها للقطاع، إلى جانب قائمة طويلة من المواد الاستهلاكية في قطاع البناء والإنشاءات والأدوات المنزلية والإليكترونية. أنفاق بدائية التهريب عبر الأنفاق لم يكن أمرا مستحدثا بمعناه المطلق، بل حفر الفلسطينيون بعض الأنفاق "البدائية"، على الحدود بين الشطر الفلسطيني والمصري (رفح الفلسطينية ورفح المصرية)، وعملت هذه الأنفاق منذ الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة عام 1967، غير أنها كانت قليلة جدا مقارنة بعدد تلك الأنفاق التي حفرها الفلسطينيون في ظل الحصار. وحسب أصحاب تلك الأنفاق فإن الأنفاق القديمة كانت إلى حد كبير بدائية عن تلك التي حفرت حديثا، إذ كان قطرها في السابق لا يتعدى 80 سنتيمترا، وغير مدعمة لحمايتها من الانهيار، لكن ومع رواج "تجارة الأنفاق - كما يسميها الفلسطينيون - فإن المهربين اضطروا إلى تدعيمها بالأخشاب، خاصة في ظل الحوادث المطردة التي أدت إلى مقتل عشرات العمال الذين كانوا ينقلون البضائع من مصر إلى غزة، إضافة إلى قيامهم بتمديد خطوط كهرباء لإنارتها وتشغيل آلات الجر داخلها، وزودت أيضا بنظام التهوية الذي يساعد العمال على عملية التنفس. وأيضا عمل الفلسطينيون على توسيع الأنفاق لتناسب طبيعة الأدوات المراد تهريبها، حيث كانت تلك الأنفاق تستخدم قديما في تهريب كميات قليلة جدا من المواد الغذائية المعلبة، لكن بعضها الآن أصبح يسمح بتهريب السيارات بعد منع إسرائيل على مدار أربع سنوات من دخولها إلى قطاع غزة. ومن بين الأمور التي تمكن الفلسطينيون من تحسينها في الأنفاق، نظام السحب، حيث يقسم النفق إلى عدة محطات، واحدة عند المدخل الفلسطيني والأخرى عند المدخل المصري، أمام الأخرى فهي تقسم في كل مسافة 300 متر تقريبا، وتزود كل محطة بماكينة تشغل بواسطة الكهرباء عبارة عن محرك وبكرة مربوط طرفها بصندوق بلاستيكي أشبه بالقاطرة يصل طوله نحو 10 أمتار، أو يكون أحيانا مقسما إلى عدة قاطرات، وعند تزويده بالبضاعة من الجانب المصري تقوم المحطة أو ما يسميها الفلسطينيون "دُشمة" بسحب القاطرة بواسطة الماكينة وتفريغ حمولتها في القاطرة التي تليها، وهكذا يتم سحبها حتى تصل إلى فوهة النفق، التي تكون أحيانا عمودية أو أفقية مائلة ليتم سحبها. تهريب السيارات في ظل التطوير في عمل الأنفاق استحدث الفلسطينيون أكثر من نفق لتهريب السيارات، وما زالت تلك الأنفاق تعمل إلى الآن وتدخل السيارات بأعداد قليلة جدا وبشكل سري، وحذر شديد، على الرغم من سماح إسرائيل بالبدء بدخول نحو 20 سيارة أسبوعيا منذ نحو شهرين، إضافة إلى أن عملية تهريب السيارات من مصر أمر في غاية الصعوبة، يتجاوز حدود مصر إلى ألمانيا، حيث يتم شراء سيارات وإدخالها عبارة عن قطع غيار بعد تفكيكها، وأيضا إلى حدود الإمارات حيث يتم شراء سيارات مستعملة وإدخالها إلى مصر بطرق رسمية ومن ثم إلى غزة. وليس صعبا أن تتعرف على أنفاق تهريب البضائع كما كان في السابق، فقد كانت الأنفاق في عهد الاحتلال داخل المنازل، وتعمل بسرية تامة، أما في الوقت الحاضر فإن أنفاق تهريب البضائع قائمة بشكل معروف، وما يميزها هو وجود معرشات وبركسات فوق كل واحد منها. صمود غزة ساهمت الأنفاق إلى حد كبير جدا في تعزيز صمود قطاع غزة، ومنعت سقوط حكومة إسماعيل هنية، وإلحاق المزيد من التدهور في الوضع الاقتصادي المأساوي في القطاع، من خلال الحفاظ على تدفق السلع الضرورية لاستمرار عجلة الحياة التي أوشكت على التوقف قبل اقتحام الفلسطينيين للحدود المصرية في يناير عام 2008. وقد أحسنت إسرائيل استغلال الأنفاق في تكبيل أيدي المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، خاصة بعد الحرب على غزة نهاية عام 2008، حيث تعمد إلى قصف الأنفاق في أعقاب سقوط أي صاروخ في النقب الغربي انطلاقا من قطاع غزة، لأن استمرار الاستقرار في قطاع غزة في ظل الحصار أصبح بالنسبة لفصائل المقاومة والحكومة المقالة أوليات لتمكين السكان من الصمود في وجه الحصار، ومع ذلك فقد دفع الفلسطينيون ثمنا غاليا للحفاظ على الرئة الوحيدة التي يتنفس منها القطاع، كان ثمنها نحو 60 عاملا استشهدوا تحت الأنفاق المنهارة، أو في القصف الإسرائيلي للأنفاق. تجارة رائجة وقد شهدت بدايات العمل في الأنفاق خلال الحقبة الحالية ازدهارا خياليا، حيث اقتصرت في البداية على الاحتياجات الخفيفة والضرورية والثمينة التي بدأ السوق في قطاع غزة يفتقدها بعد عدة أشهر من بداية الحصار، كالأدوية وبعض المواد الغذائية وقطع غيار السيارات، وكان نقل كيس واحد يزن 35 كيلو جراما يكلف 120 دولارا، الأمر الذي حقق ثراء فاحشا لدى أصحاب الأنفاق، الذين كانوا يعملون على مدار الساعة. وقد دفعت هذه الأرباح الضخمة الكثير من الفلسطينيين خاصة أولئك الذين يقطنون في رفح إلى حفر المئات من الأنفاق، ما أدى إلى انخفاض العائدات بشكل كبير جدا، حيث وصلت أجرة نقل الطن نحو 300 دولار. ويقول "أبو عثمان" أحد التجار الذي كان يتعاقد مع أصحاب الأنفاق، لتهريب البضائع، ل "الوطن"، إن عائدات التهريب في السابق كانت أضعافا مضاعفة عن الوقت الحالي، حيث كان الطن الواحد يكلف نحو 4000 دولار، أما اليوم، وبعد أن وصلت أعداد الأنفاق إلى أكثر من 400 نفق، فلا تتعدى أجرة نقل الطن ثلاثمائة دولار، وهو أمر لا يمكن مقارنته، علما بأن هذا المبلغ تتم مقاسمته مع مسؤول النفق في الجانب المصري أو ما يسمونه "الأمين". ولا بد من الإشارة هنا إلى أن تكلفة حفر نفق بطول نحو 900 متر تصل نحو 90 ألف دولار، ومع ذلك فقد حفر المهربون المئات منها لاستيعاب الحجم الهائل من احتياجات السوق في قطاع غزة في ظل انعدام فرص إدخال الاحتياجات الضرورية عبر المعابر الإسرائيلية. أما الآن وبعد أن أدخلت إسرائيل "تسهيلات" على دخول البضائع إلى غزة، وأزالت بعضها عن قائمة الممنوعات، شهد العمل في الأنفاق تراجعا آخر، مع العلم أن إسرائيل ما زالت تمنع دخول الكثير من الاحتياجات الضرورية، خاصة مواد البناء، والحديد، والإسفلت، وقطع غيار السيارات، وأجهزة الكمبيوتر وتوابعها، والمحروقات (البنزين والسولار)، وهذا ما حافظ على استمرار التهريب عبر الأنفاق. ويشير إلى أن تجار الأنفاق لجؤوا إلى جلب العجول والماشية من مصر عبر الأنفاق، خاصة مع اقتراب عيد الأضحى من كل عام، لكنها لم تجد نفعا ولم يعد التجار يلجؤون إليها، وما يتم تهريبه قليل جدا. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن إسرائيل تسمح بدخول العجول والمواشي إلى غزة، لكنها تدفع بكميات قليلة، ما أدى إلى ارتفاع سعرها وعدم تمكن الكثير من سكان القطاع من شراء الأضاحي لنحرها في عيد الأضحى. بورصة الأسعار حسب "أبو عثمان" فإن حجم العمل في الأنفاق انخفض بعد تخفيض قائمة الممنوعات الإسرائيلية إلى النصف، لكن العجلة ما زالت تدور، ويتركز العمل في التهريب على المواد التي ما زالت إسرائيل تمنع دخولها إلى القطاع، وبالتالي انخفضت نسبة الأرباح إلى النصف أيضا، كما أن الكثير من التجار يضطرون للمضاربة، وكذلك التجار الصغار لا يستطيعون الصمود في ظل الأسعار المتأرجحة، ما أدى إلى تدهور تجارة الأنفاق. ويضيف أن ما ساعد على استمرار العمل بالتهريب عبر الأنفاق أن بعض البضائع التي تسمح إسرائيل بدخولها يقوم التجار بتهريب مثيلتها عبر الأنفاق نظرا لانخفاض سعرها في مصر عنه في إسرائيل، إضافة إلى أن بعض التجار الذين لا يملكون ملفات ضريبية لا يستطيعون الاستيراد عبر المعابر الإسرائيلية فيلجؤون إلى التهريب عبر الأنفاق. ولا يخفي أبو عثمان حقيقة المصاعب الكبيرة التي يواجهها المهربون داخل الحدود المصرية، ويقول إن الطريق من مصر إلى الأنفاق صعبة جدا منذ أن سمحت إسرائيل بدخول بعض السلع، وكثيرا ما تتم مصادرة البضائع وهي في طريقها إلى الأنفاق، بل أحيانا تتم مصادرتها من داخل النفق نفسه قبل عبورها من جهة الحدود المصرية. ويشير أبو عثمان إلى أن أكثر الملاحقات تتم لمن يعمل في تحويل الأموال، حيث يضطر التجار هنا لتحويل ثمن البضاعة عن طريق أشخاص في مصر، وهو أمر يشهد مخاطر كبيرة في الجانب المصري على الذين يعملون فيه. تهريب البشر! لم يقتصر أمر التهريب على البضائع، بل لجأ بعض المهربين إلى إدخال بعض الأجانب الذين يودون زيارة أحد أقربائهم في غزة، علما بأن إسرائيل تمنع زيارة غزة لأي من الأجانب، بل تمنع أحيانا شخصيات رسمية من دخول القطاع، وفي الجانب المصري لا تسمح مصر بدخول غير حملة الهوية الفلسطينية من خلال معبر رفح. وكانت حكاية "فالي" الأوكرانية التي روتها ل "الوطن" إحدى الحقائق التي شهدت أنفاق رفح على الكثير منها، حيث إن "فالي" تسكن غزة مع زوجها وأبنائها منذ عدة أعوام وهي لا تحمل هوية فلسطينية، وإن خرجت لزيارة أسرتها في أوكرانيا فلن تتمكن من العودة للقطاع، ووالدتها في المقابل لا تستطيع الدخول، لأنها أيضا لا تحمل الهوية الفلسطينية، فاضطرت للاتفاق مع أحد المهربين على إدخال والدتها من النفق لزيارتها بعد وصولها الأراضي المصرية قادمة من أوكرانيا، وقد حالفها الحظ بأن تعاطف معها المهربون ولم تدفع نقودا، غير أن غيرها كان يدفع حتى ألف دولار للشخص الواحد. الموت بالشيكل لا يخفي العاملون في مجال التهريب قلقهم على عملهم المستحدث في الأنفاق، حيث يعمل في كل نفق نحو 20 عاملا على فترتين صباحية ومسائية تمتد كل فترة 12 ساعة، وهم يخشون الصحافة أو الحديث إليها، ولديهم تعليمات مشددة من أصحاب الأنفاق بألا يتعاملوا مع وسائل الإعلام بأي شكل من الأشكال. أحد أصحاب الأنفاق الذي وصلت إليه "الوطن" كان يحتسي الشاي مع اثنين من رفاقه قرب بوابة النفق المتوقف عن العمل. سألناه إن كان يمكنه الحديث؟ فسأل: "وماذا سأستفيد؟ هل ستعطونني مائتي دولار؟ إن كنتم ستعطونني المال سأتكلم". وفي مكان غير بعيد كان العمل في أحد الأنفاق يسير على ما يرام، وكان العمال يقومون باستخراج حديد البناء وأكياس ملاعق بلاستيكية، قال العمال إن تجارا اشتروها من إسرائيل ونقلوها إلى مصر ومن هناك نقلوها عبر الأنفاق إلى غزة. وبعد رفض العديد من العمال الحديث مع "الوطن" ومن خلال بعض العلاقات الشخصية اقتنعوا بالحديث، وبادر شخص يلقب نفسه "أبو معاذ"، وهو يعمل بعد عودته من الدراسة في الجامعة في الأنفاق، بالقول: "أعمل هنا لأتمكن من دفع رسوم الجامعة والمصاريف الأخرى، لأن والدي لا يستطيع توفير كل احتياجاتنا، ومثلي هنا العشرات من طلاب الجامعات". ويضيف: "كنا نتقاضى في السابق 100 دولار يوميا، أما الآن وبعد أن تراجع العمل أصبحنا نتقاضى 100 شيكل فقط (27 دولارا). يعني أصبح الموت بالشيكل - في إشارة إلى حجم الخطر الذي يتعرضون له خلال عملهم في باطن الأرض – إننا نرى الموت من أجل الحصول على مائة شيكل، لكن لا يوجد أمامنا خيار آخر، سوى العمل في أتون الموت من أجل المال". "شارون" الغزاوي! على فتحة النفق في الجانب الفلسطيني كان يقف شاب يلقبونه "شارون" لم يشأ أن يفصح عن هويته أو طبيعة عمله، لكن حسبما فهمنا فإنه استأجر النفق مع شركاء آخرين. يقول "شارون" ل "الوطن": "لم يعد العمل كالسابق على الإطلاق، العمل الآن لمجرد استهلاك الوقت"، ويضيف: "عملنا قبل أيام ولمدة أسبوعين كل يوم 12 ساعة، فلم نكسب أنا وجميع العمال سوى 45 شيكلا (12 دولارا تقريبا) للشخص الواحد يوميا، وهذا أقل مما يتقاضاه العامل في الوقت الحالي بحوالي النصف. وخلص إلى القول " ولى زمن العصر الذهبي". هذا هو حال الوضع القائم مع الأنفاق والمهربين، قبل وبعد أن خففت إسرائيل من قائمة الممنوعات المتعسفة. وبالرغم من أن إسرائيل لا تسمح حتى الآن بدخول العملات الصعبة إلى البنوك، الأمر الذي خلق واقعا مصرفيا معقدا للغاية. كما أنها لا تسمح بدخول مادة الإسفلت، فكل من يمتلك سيارة جديدة في غزة، فإنها ستتحول إلى خردة بعد وقت قصير من كثرة الحفر في الشوارع التي لم يعد بالإمكان إعادة رصفها من جديد. وكل من يقترب من مشروع زواج وتأسيس بيت جديد فإن عليه البحث عن الحصى أولا قبل أي شيء آخر لمزجه مع إسمنت البناء وإن وجد فإن عليه أن يدفع ستة أضعاف سعرها الحقيقي.