بينما يُمعن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في تسويق رواياته الحربية أمام العالم، ويدّعي أن إسرائيل «لا تملك خيارًا سوى مواصلة القتال»، يتكشف في غزة واقع مروّع يفضح هشاشة هذا الخطاب وزيفه. ففي الوقت الذي تسقط فيه أرواح المدنيين، بينهم نساء وأطفال ومسعفون، لا يتوقف نتنياهو عن تبرير القصف والتدمير، متجاهلًا عن عمد التبعات الإنسانية، ومتمسكًا بخطاب يزداد انكشافًا مع كل تقرير وتحقيق. وأحدث تلك الفضائح جاء في أعقاب تحقيق إسرائيلي رسمي اعترف بوجود «إخفاقات مهنية» في حادثة مروّعة قُتل خلالها 15 مسعفًا فلسطينيًا في غزة، بنيران قوات الاحتلال، الشهر الماضي. صدمة إنسانية والحادثة التي وقعت فجر 23 مارس في حي تل السلطان بمدينة رفح، خلّفت صدمة إنسانية واسعة، لا سيما بعد أن قامت القوات الإسرائيلية بجرف جثث المسعفين ومركباتهم، ودفنها في مقبرة جماعية، في مشهد أشبه بجريمة مكتملة الأركان. ورغم أن الرواية الإسرائيلية بدأت بادّعاء أن سيارات الإسعاف لم تكن تحمل إشارات طوارئ واضحة، فإن مقطع فيديو التُقط بهاتف أحد المسعفين فضح تلك الادعاءات، موضحًا أن الأضواء كانت تومض بوضوح لحظة الاستهداف. والتحقيق أقر بأن نائب قائد الكتيبة أخطأ التقدير «بسبب ضعف الرؤية الليلية»، ما دفعه للاعتقاد بأن المركبات تابعة لحماس، وهو ما أفضى إلى قرار كارثي بفتح النار على أطقم الإنقاذ المكون من ثمانية من عناصر الهلال الأحمر، وستة من الدفاع المدني، وموظف من الأممالمتحدة، كانوا من بين الضحايا. كما كشف التحقيق عن وقوع حادثة منفصلة بعد ربع ساعة فقط من الجريمة الأولى، إذ أطلق جنود إسرائيليون النار على مركبة أممية، في انتهاك مباشر للأوامر. محاولات التخفيف والتحقيق الإسرائيلي حاول التخفيف من وقع الفضيحة، فاعتبر أن قرار سحق سيارات الإسعاف ودفنها كان «خاطئًا» لكنه «لم يكن محاولة لإخفاء الجريمة»، ونفى وجود «أدلة على إعدامات أو تقييد الضحايا». لكن هذه التبريرات بدت أقرب لمحاولة التملص من المسؤولية، خاصة في ظل تأكيد جمعية الهلال الأحمر أن طواقمها «استُهدفت عن قرب»، وتكرار سابقة مماثلة استهدفت مركبات تابعة للأمم المتحدة. وتستمر إسرائيل في اتهام حماس باستخدام سيارات الإسعاف والمستشفيات لأغراض عسكرية، ما تستخدمه ذريعة دائمة لاستهداف البنى التحتية المدنية، وهي ادعاءات نفتها أطقم الإسعاف والمنظمات الدولية مرارًا. بلا محاكمة وتقرير التحقيق الإسرائيلي لم يُفضِ إلى محاكمات أو مساءلات، بل أوصى فقط بفصل نائب قائد الكتيبة، في إجراء شكلي لا يرقى إلى مستوى الجريمة. وبينما تسوّق الحكومة الإسرائيلية هذه الخطوة كنوع من «الشفافية»، تبقى الأرواح التي أُزهقت شاهدًا دامغًا على الفشل الأخلاقي والعسكري في آن، وتأكيدًا على أن إسرائيل، بقيادة نتنياهو، لا تكتفي بارتكاب الانتهاكات، بل تسعى لتغليفها بروايات كاذبة لتبرير ما لا يمكن تبريره. مواصلة الحرب ويصر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على المضي قدماً في الحرب، متذرعاً بأن «إسرائيل ليس لديها خيار» سوى مواصلة القتال. تصريحاته المتكررة تعكس تمسكه بخطاب الحرب، في وقت تتسع فيه رقعة الانتقادات الداخلية التي تطال أداءه وتوجهاته، خاصة مع ارتفاع كلفة الحرب البشرية وتآكل الثقة الشعبية بمبررات استمرارها. وتبدو الحرب في غزة اليوم أكثر ارتباطاً بمصير نتنياهو السياسي منها بأي إستراتيجية أمنية حقيقية. فالخوف على الكرسي، وهاجس البقاء في السلطة، يدفعانه نحو خيار الدم، بينما يتزايد الضغط الدولي والإسرائيلي لإنهاء حرب طاحنة يبدو أنها لم تعد تخدم سوى مصالحه الشخصية. الهروب إلى الأمام ويجد نتنياهو، الذي يواجه أزمات متصاعدة على الصعيدين الأمني والسياسي، في استمرار الحرب وسيلة للهروب من ضغوط الداخل المتفاقمة، سواء من عائلات الرهائن، أو من جنود الاحتياط والمتقاعدين الذين يشككون في جدوى العمليات العسكرية بعد خرق تل أبيب لاتفاق وقف إطلاق النار الأخير. ورغم إبداء حماس استعداداً للتفاوض مقابل هدنة دائمة، رفض نتنياهو المقترحات القائمة، متهماً الحركة بعرقلة الإفراج عن الرهائن المتبقين، في وقت تصر فيه المقاومة على ضرورة انسحاب إسرائيل الكامل من غزة كشرط مسبق. إنقاذ سياسي ونتنياهو الذي يعيش عزلة داخلية وخارجية متصاعدة، يسعى من خلال مواصلة الحرب إلى ترميم صورته المهزوزة بعد إخفاقات أمنية جسيمة، أبرزها عملية السابع من أكتوبر التي شكلت ضربة قاصمة لمنظومة الردع الإسرائيلية. في المقابل، تصاعدت حدة المظاهرات في تل أبيب ومدن إسرائيلية أخرى، مطالبة بالتوصل إلى اتفاق لإعادة الرهائن ووقف الحرب. وفي المقابل، لا تزال المقاومة في غزة تصر على موقفها، مؤكدة أن لا إطلاق للرهائن دون وقف شامل لإطلاق النار وانسحاب إسرائيلي كامل، في ظل ما تعتبره «تمادياً في سياسة الأرض المحروقة» التي تمارسها حكومة نتنياهو. نتائج كارثية ومنذ بدء العدوان، قُتل أكثر من 51 ألف فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال، وتدمّر القطاع بشكل شبه كامل، بما في ذلك البنى التحتية والمراكز الطبية والقدرات الإنتاجية. ويعيش أكثر من 90 % من سكان غزة في حالة نزوح دائم، وسط مجاعة تلوح في الأفق وغياب أي أفق سياسي واضح. وتستمر إسرائيل في التلويح باحتلال مناطق واسعة من غزة «كأراضٍ أمنية» دون سقف زمني، في وقت تسابق فيه المنظمات الحقوقية والإنسانية الزمن لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. أبرز ملامح تعنت نتنياهو في حرب غزة 1. رفضه وقف إطلاق النار: يصرّ على مواصلة الحرب رغم المبادرات الدولية والعربية، ويشترط «القضاء التام على حماس» قبل أي تهدئة. 2. التمسك بالحل العسكري: يرفض المقترحات السياسية أو التفاوضية، معتمدًا بالكامل على العمليات العسكرية كحل وحيد للأزمة. 3. إفشاله لمساعي تبادل الرهائن:رفض اقتراحًا بإطلاق سراح نصف الرهائن مقابل هدنة مؤقتة، مفضّلًا استمرار الحرب رغم الضغط الشعبي الداخلي. 4. فرضه حصارًا خانقًا على غزة:يمنع دخول الغذاء والدواء منذ أكثر من ستة أسابيع، متسبّبًا بكارثة إنسانية غير مسبوقة وسط تحذيرات أممية. 5. تصعيده المستمر للضربات الجوية:أمر بشنّ هجمات مكثفة أوقعت عشرات القتلى يوميًا، بينهم نساء وأطفال، رغم استهداف مناطق مصنّفة «إنسانية». 6. تجاهله للضغط الشعبي في الداخل:يتعامل بلا مبالاة مع المظاهرات الأسبوعية المتزايدة في إسرائيل والتي تطالب باتفاق يعيد الرهائن ويوقف الحرب. 7. استخدامه الحرب لأهداف سياسية:يسعى لترميم صورته المهزوزة والبقاء في السلطة، عبر خطاب ناري وتصعيد ميداني يراه وسيلة للهروب من أزماته الداخلية.