يمكن اعتبار الضربة الأميركية على سورية من أغرب الضربات العسكرية في التاريخ، فلأول مرة تكون هناك ضربة معروفة الأهداف ومعروفة النتائج ويصرح القائم عليها بأنها ستكون محدودة ولن تهدف إلى إسقاط النظام. ومع ذلك فإن بعض المحللين السياسيين والعسكريين ذهبوا بعيدا في تصوير الضربة وكأنها مفتاح النصر للثورة السورية وستغير موازين المعادلة العسكرية على الأرض وتساعد على إسقاط نظام بشار الأسد بشكل غير مباشر. ورغم العراقيل التي تعترض طريق أميركا في شن هذه الضربة في الداخل الأميركي وعند قسم من حلفائها الأوروبيين إلا أن الإدارة الأميركية عازمة على توجيه هذه الضربة لمصالح أميركية ليس بالضرورة أن تكون آنية كما يفكر بعض المحللين والساسة أصحاب الرؤى الحماسية. لقد حاولت أميركا إعلاميا التركيز على الأسباب (الإنسانية والسياسية) التي تقف وراء قرار الضربة العسكرية، وهي استعمال النظام السوري لأسلحة محرمة دوليا ضد مدنيين عزل في دمشق، وأنها تهدف من خلال الضربة إيصال رسائل لأنظمة شمولية أخرى مماثلة للنظام السوري بأن أي استعمال محتمل لأسلحة دمار شامل من قبلها لن يمر دون عقاب، لذلك فهم يدخلون الحرب (وهي كره لهم). لا نعتقد بأن الأسباب الأميركية السالفة الذكر هي كافية لجعل خيار الحرب هو الخيار الوحيد لدولة تعد نفسها هي القوة العظمى في عالمنا المعاصر، فهناك الكثير من الوسائل التي يمكن من خلالها الوصول إلى نتائج الردع والتخويف دون الدخول في خيار الحرب.. إلا أن الإصرار الأميركي يجعلنا نفتش عن الأسباب الحقيقية للتلويح بهذه الضربة التي أتصور أنها تتلخص في النقاط الثلاث التالية: 1- إن استعمال النظام السوري للأسلحة الكيماوية في الغوطة الشرقية يعد خرقا للتفاهمات الإقليمية التي وإن لم تكن حسب اتفاقات موقعة إلا أنها ترسخت بسبب تراكمات سياسية أوصلت الحكومات العربية وإسرائيل إلى حالة من التهدئة المنظمة والطويلة الأمد، واستعمال نظام بشار الأسد لهذه الأسلحة هو خرق خطير لهذه التفاهمات يعطي مؤشرات لاحتمالية لجوء هذا النظام لهذا الخيار في أي تغيير محتمل لموازين القوى في المنطقة ضد إسرائيل؛ مما جعل من بشار الأسد الشخصية التي لا يؤمن جانبها ولا يمكن التعامل معها مجددا من قبل الإدارة الأميركية والمجتمع الدولي، ولذلك فإنه لا ضير من توجيه ضربة تأديبية له وتوجيه رسالة من خلالها إلى أنظمة مماثلة لردعهم عن انتهاك التفاهمات التي تنشأ دون اتفاقات موقعة. 2- إن عامل الموازنة التي حاولت أميركا المحافظة عليه بين المعارضة السورية والجيش النظامي السوري منذ بداية الثورة السورية بات الآن أمرا يصعب الحفاظ عليه بعد دخول مليشيات شيعية وسنية على الخط في هذه الأزمة. فدخول حزب الله وبعض المليشيات الشيعية في المعادلة السورية لدعم نظام بشار الأسد وكذلك تقاطر (المجاهدين) من كل الدول الإسلامية للقتال مع المعارضة المسلحة ضد النظام أدخلت الثورة في حالة من الاضطراب لا يمكن لأميركا ومؤسساتها ضبط إيقاعها والتنبؤ بمساراتها، خاصة بعد سيطرة هذه المجاميع الإسلامية على الحالة الميدانية في طرف المعارضة؛ مما يجعل التدخل الأميركي المباشر هو الضامن الوحيد لتوجيه دفة التطورات بما يضمن مصالحها ومصالح الغرب في هذا البلد، والضربة الأميركية إن حصلت فلن تكون موجهة ضد المنشآت العسكرية التابعة للجيش النظامي فقط بل ستوجه أيضا ضد مراكز تجمعات المليشيات الإسلامية هذه بغية إضعافها (وليس تدميرها)، وإعادة التوازن العسكري بينها وبين الجيش الحر من جهة وبين المعارضة والجيش النظامي من جهة أخرى. هذا التوازن العسكري بين الأطراف المتصارعة سيكون كفيلا بإطالة عمر الأزمة السورية لإنهاك جميع الأطراف دون انتصار طرف على الطرف الآخر. لقد حاولت أميركا ومنذ بداية الأزمة السورية العمل على إطالة أمد الأزمة هذه مستغلة في البداية الموقف الروسي الرافض لأي تدخل خارجي في الأزمة السورية، ثم تلاقت مصالح النظام السوري مع الرؤية الأميركية في مفصل من مفاصل الأزمة السورية؛ وذلك بإدخال العامل الجهادي الإسلامي (المتطرف).. هذا العامل الذي استفاد منه النظام السوري كما استفادت منه الإدارة الأميركية، فالنظام السوري استطاع من خلال دخول المجموعات الإسلامية المتطرفة إلى الساحة تخويف أميركا والدول الغربية وإسرائيل من أن أي انتصار للثورة السورية سيعني سيطرة هذه المجموعات على سورية (الجارة لإسرائيل)، وبذلك توجست هذه الأطراف الدولية خيفة منها واستفادت الإدارة الأميركية من هذا (البعبع) الإسلامي في اتخاذه مبررا كافيا لترددها في دعم المعارضة السورية بالسلاح خوفا من أن تستفيد منه هذه المجاميع. وهكذا سارت أحداث الثورة السورية كما تريدها أميركا تماما في التوازن بين القوتين المتصارعتين فيها دون أن يحسم أي طرف الوضع لصالحه ميدانيا. هذا التوازن الذي حاولت أميركا الحفاظ عليه تمثل في تجاهلها للدعم الإيراني لنظام بشار الأسد عن طريق العراق برا وجوا، وكذلك تسهيل الدول العربية (الحليفة لأمريكا) دخول مسلحي التنظيمات الإسلامية الجهادية إلى الداخل السوري قاطعين حدود دول كثيرة دون أن يعترض طريقهم أحد. 3- دفع إيران وحزب الله إلى تنفيذ الأجندات الأميركية في المنطقة دون تفاهمات مشتركة أو اتفاقات بينهما، وهذا ما يفسر تأكيد الإدارة الأميركية على أن الضربة العسكرية لن يكون هدفها إسقاط النظام السوري. فأميركا تعرف أن إيران وحزب الله لن يدخلا في حرب مباشرة ضد أميركا أو مصالحها في المنطقة إذا لم تتدخل أميركا بشكل مباشر لإسقاط بشار الأسد، وإذا تلاحقت الضربات المحدودة الأميركية على سورية فإن إيران وحزب الله سيبحثان عن سبل أخرى تخفف الضغط على نظام بشار الأسد؛ وذلك بإثارة أزمات أخرى خارج الأرض السورية لخلط الأوراق ولفت أنظار المجتمع الدولي إلى بؤر أزمات أخرى في المنطقة. وهكذا فإن الأجندات الإيرانية هذه لن تتعارض على الإطلاق مع ما تخطط إليه أميركا وإسرائيل من إثارة الأزمات في المنطقة وستكون بمثابة توافق استراتيجي بين الطرفين حتى وان لم يكن بواسطة اتفاقيات. إن سورية قبل الضربة لن تختلف عن سورية بعد الضربة لا من حيث وحشية نظامها الجاثم على صدر الشعب السوري المسكين ولا التشتت والهذيان اللذين تعيشهما المعارضة السورية، وكل ما سيحصل هو دخول أميركا في الأزمة السورية بشكل مباشر للمحافظة على التوازن العسكري بين الطرفين لإطالة أمد القتال واستنزاف الطرفين اللذين لا يعرفان التوصل لحلول وسط تنقذ الشعب السوري من المآسي التي يعيشها.