يبدو أن التلويح بخيار الحرب أصبح الخيار الأول فى أي مشكلة أو خلاف ينشأ بين دولتي السودان شماله وجنوبه، كعرض من أعراض فشل التوصل خلال أكثر من عام بعد إعلان استقلال الجنوب إلى حل للقضايا الرئيسية المتنازع عليها، فالنزاع المسلح بين الطرفين حول تبعية منطقة أبيي مازال مستمراً، مما دفع مندوبة الولاياتالمتحدة الأميركية في مجلس الأمن إلى التلويح، بإمكانية استخدام قوات دولية في المنطقة ضد حكومة الخرطوم وفقاً للبند السابع من ميثاق الأممالمتحدة بعد سيطرة الجيش السوداني على مناطق شاسعة في الإقليم، وماتزال قضايا الحدود بين البلدين عالقة دون حسم، ويبدو أن الأمور لا ترواح مكانها في العلاقة بين الدولتين، وكل ما تقدمت خطوة للأمام لا تلبث أن تتأخر خطوات للوراء، ومنذ أن انفصل جنوب السودان عن شماله في التاسع من يناير من العام الماضى، لم تهنأ الدولتان بطعم الأمن والاستقرار حتى الآن، ورغم تعقيدات الملف الأمني وملف الحدود والمناطق المتنازع عليها وخاصة منطقة أبيي، إلا أن النفط يظل صاحب الكلمة الأولى، ويمكنه أن يكون طوق النجاة للدولتين للخروج بشعبيهما من حالة الفقر والبؤس، وأن تكون المنفعة المشتركة التي تساعد على استقرار الأوضاع الأمنية في الدولتين، كما يمكن أن يكون هو الشرارة التي قد تشعل المنطقة مرة ثانية. وبعد أن أوقفت حكومة جنوب السودان لأكثر من عام كامل إنتاجها النفطي الذي يبلغ 350 ألف برميل في خلاف حول رسوم مرور الصادرات، وذاقت الدولتان الأمرين جراء توقفه، وأصبحت الحياة جحيما لا يطاق للمواطنين، توصلت الخرطوموجوبا بعد مفاوضات ماراثونية في أديس أبابا بمساعدة الوسطاء الأفارقة والدوليين، إلى تفاهمات أفضت إلى منظومة من الاتفاقات الأمنية مما سمح بتدفق النفط مرة أخرى عبر الموانئ السودانية في إطار الجدول الزمني لتنفيذ اتفاقيات التعاون في السادس من أبريل الماضي. وقف تدفق النفط ولكن تزامناً مع وصول نفط دولة جنوب السودان إلى بورتسودان، أصدر الرئيس عمر البشير توجيهاً بإغلاق الأنبوب الناقل لبترول دولة الجنوب الذي تم ضخه عبر أنابيب السودان، بعد أن اتهم جوبا بالاستمرار في دعم متمردي الجبهة الثورية التي تقاتل في مناطق جنوب كردفان والنيل الأزرق المتاخمة لدولة الجنوب، وقال وزير الإعلام السوداني أحمد بلال، إن قرار الرئيس البشير وقف تصدير نفط الجنوب عبر أراضيه يعني عملياً إلغاء الاتفاقات ال9 المدرجة في بروتوكول التعاون بين البلدين، ولفت إلى أن أبرز تلك الاتفاقيات - بجانب الاتفاق النفطي - اتفاق لتأمين الحدود يمنع أي طرف من دعم المتمردين على الطرف الآخر، واتفاق متصل بالتجارة الحدودية، حيث يستورد الجنوب غالبية احتياجاته من الشمال، وقال "إن الرئيس البشير أبلغ رئيس الجنوب في أديس أبابا أن السودان سيضطر إلى وقف تنفيذ اتفاقية التعاون مع جوبا وعلى رأسها النفط إذا استمرت حكومة جنوب السودان في تقديم الدعم لمتمردي ما يسمى بالجبهة الثورية وقطاع الشمال. وبينما سارع حزب المؤتمر الوطني الحاكم في السودان، لإطلاق نفرة "حالة تأهّب" تحت مسمى "الرباط في سبيل الله"، وتشارك فيها مختلف قطاعات الحزب من القيادة للقاعدة على مختلف الجبهات، استجابة للنداء الذي أطلقه الرئيس البشير للتصدي للمؤامرات والتحديات التي تواجه البلاد، استبعد رئيس جنوب السودان سلفاكير ميارديت نشوب حرب بين بلاده والخرطوم بعد قرار الأخيرة إلغاء الاتفاقيات، غير أنه عبر عن صدمته للقرار واعتبره يأتي في سياق التملص من الاتفاقيات السابقة وخاصة اتفاقية إجراء استفتاء أبيي المزمع إجراؤه في أكتوبر المقبل. تحركات دبلوماسية وتمهيدا لزيادة التصعيد من الجانب السوداني، قامت وزارة الخارجية السودانية، بقيادة تحرك دبلوماسي لشرح دواعي قرار حكومة الخرطوم، وإخطار الشركات العاملة في النفط، بوقف مرور بترول دولة جنوب السودان، عبر الأراضي السودانية تدريجياً، وشمل التحرك تنوير سفراء الدول المعنية بالأمر، إضافة إلى تنوير سفراء المجموعات المختلفة، كما خاطبت الاتحاد الأفريقي، والآلية الأفريقية رفيعة المستوى، ومجلس الأمن الدولي، في ذات الخصوص. وقام وزير الخارجية، علي كرتي، بجولة إقليمية شملت دول الاتحاد الأفريقى وعلى رأسها إثيوبيا لشرح أبعاد القرار السوداني. وفي نيويورك طلب مندوب السودان في الأممالمتحدة، من الإدارة الأميركية تقديم النصح لأصدقائها في الجنوب، بوقف دعمهم للمتمردين وإيوائهم، والانسحاب من الأراضي السودانية، وأكد أنّ أية نصائح تقدّم للسودان لن تفيد بغير انسحاب الجنوب من الأراضي السودانية، وإيقاف دعم التمرد. تباين المواقف تباينت وجهات النظر الداخلية والدولية في تداعيات قرار وقف تصدير النفط الجنوبي بين مؤيد ومعارض، وأثار قرار الخرطوم وقف مرور نفط الجنوب عبر أراضيها سخطا دوليا واسعا حيث انتقدت الصين "المستثمر الأول في صناعة النفط في السودان" هذا الإجراء معتبرة أنه غير مبرر على الإطلاق. كما انتقدت فرنسا القرار مشيرة إلى أن هذه التدابير قد تؤثر سلبا على عملية التطبيع بين البلدين واقتصادهما. أما الاتحاد الأوروبي فقد حذر من خطورة تصعيد النزاع. وفي الداخل السوداني اعتبر القيادي في الحزب الحاكم، ربيع عبد العاطي في حديثه إلى "الوطن"، أن قرار الرئيس البشير كان شجاعا وأتى في وقته، واعتبر أن جنوب السودان لم يع الدرس جيدا، وظل يفاوض في غرفة، ويدعم المتمردين في الغرفة الأخرى، وقال إن من غير المعقول أن يسمح السودان بعبور النفط الذي يستخدم في تمويل لقتل أبنائه، وأوضح ربيع أن حكومة الجنوب وكل الدول الغربية والصديقة والمنظمات العاملة في المنطقة تعلم حجم الدعم المقدم من جنوب السودان إلى متمردي الجبهة الثورية، وقال إن حكومته قدمت الأدلة والوثائق الكافية وشهادات الشهود التي لا تقبل الجدل وحتى أسماء الأفراد الذين يقومون بتوصيل المال والعتاد للمتمردين، واعتبر ربيع أن هناك صقورا فى حكومة الجنوب لا يزالون يراهنون على إسقاط الحكومة في الخرطوم، ووصف دعمهم لمتمردي النيل الأزرق وجنوب كردفان بأنه حرب بالوكالة. انتقاء الاتفاقيات أما الخبير الأمني والعسكري، اللواء عبدالمنعم إبراهيم، فقد اعتبر أن دولة الجنوب تنتقي بعض الاتفاقيات دون الأخرى على الرغم من تحديد توقيتات زمنية لتنفيذ كل الاتفاقيات الواردة في اتفاق التعاون المشترك. كما أوضح عدم التزام دولة الجنوب تجاه الأعمال المطلوبة في المصفوفة الأمنية ولم تستكمل الانسحاب الفوري غير المشروط لقوات الجيش الشعبي من الأراضي السودانية في كل من "البيبنيس، محطة بحر العرب، تمساحة شمال، أجزاء من بحيرة الأبيض، جودة، التشوين، سماحة أولادهم"، وكذلك عدم إعادة الانتشار خارج المنطقة الآمنة منزوعة السلاح. وأبان أن جوبا مازالت تقدم كافة أشكال الدعم السياسي والعسكري واللوجستي المتمثل في إيواء قيادات وعناصر الحركات المسلحة من متمردي حركات دارفور ومنطقتي النيل الأزرق وجبال النوبة مع تقديم كافة أشكال الدعم المتمثلة في الوقود والذخائر والعربات والإسبيرات، وعلاج المرضى والمصابين في المستشفيات المختلفة، وكذلك رفض جوبا تحديد خط الصفر لوضع نقاط المراقبة للمعابر حتى يتسنى نقل المعدات والمواد وتسهيل حركة الأفراد العاملين في مجال النفط وعدم توصيل شبكة مراقبة خط الأنابيب ووجود نسبة كبيرة من المياه مما يؤدي إلى مشاكل في المعالجة والنقل وربما التسويق مما يهدد الجدوى الاقتصادية لهذه المنشآت البترولية. سياسات مالية بينما قلل الخبير الاقتصادى، الدكتور أنور القوصي، من الآثار الاقتصادية المترتبة على القرار، خصوصاً على سعر صرف العملات الأجنبية، مؤكدا على مقدرة البنك المركزي على توفير النقد الأجنبي للسلع الأساسية ومدخلات الإنتاج. وقال في حديثه إلى "الوطن" إن التدابير والسياسات التي وضعها البنك المركزي منذ خروج عائدات نفط الجنوب لفترة استمرت ما يقارب العامين، قادرة على تقليل أي آثار سلبية لقرار وقف الضخ، ورأى أن القرار قد يكون له أثر نفسي لكنه أثر محدود لا يتعدى أمنيات وأشواق المضاربين في سوق النقد الأجنبي، خاصة أن الطلب على العملات الأجنبية في هذه الفترة محدود ومقدور عليه، وشدد القوصي على أن السودان أثبت مقدرته على تحقيق استقرار اقتصادي وتوفير الطلب من العملات الصعبة بدون عائدات النفط، واستشهد بأن معدل النمو في الاقتصاد السودانى بلغ 4 % بالرغم من توقف النفط لأكثر من عام كامل، وأن البدائل في السودان كثيرة وأهمها الذهب الذي أصبح أول مصدر للعملات الصعبة للخزينة العامة، وكذلك الزراعة. الموقف في الجنوب أما في جوبا، فقد كان الموقف هادئا يعكس رغبة في عدم التصعيد، وجدد رئيس الدولة، سلفاكير، التزام حكومته، بالاتفاقيات الموقعة مع الخرطوم، ما لم يخطرهم السودان بإلغائها بشكل رسمي، مع الالتزام بالتعاون مع الحكومة السودانية نافيا دعم بلاده للمتمردين، متمسكاً في الوقت نفسه، بموقف بلاده الداعي إلى إجراء استفتاء منطقة أبيي في أكتوبر المقبل، رغم رفض الجانب السوداني، من جانبه وصف وزير الإعلام في حكومة جنوب السودان بنجامين برنابا قرار الرئيس البشير بأنه "غير حكيم" وحذر من كارثة بيئية تنعكس آثارها على تلويث نهر النيل، مما يؤثر على السودان ومصر، مؤكدا أن زيارة رئيس جنوب السودان إلى الخرطوم ما زالت قائمة وسيصل إلى بورتسودان لمشاهدة تصدير النفط، فيما أكد وزير النفط في جنوب السودان ستيفن ديو داو، أن بلاده ستواصل ضخ الخام إلى السودان بالرغم من تهديد الخرطوم بوقف تدفقه عبر الحدود، وأوضح أن بلاده ضخت نحو سبعة ملايين برميل من النفط الخام إلى جارتها منذ استئناف الإنتاج في أبريل الماضي، وقال داو، إن أي إغلاق سيتم تدريجيا بالتنسيق مع السودان وشركات النفط. وأضاف "لن يحدث ذلك في يوم واحد. سيتم في 60 يوما تدريجيا حتى يتوقف الإنتاج تماما". وحذرت أحزاب المعارضة بجنوب السودان، حكومة بلادها من تبعات الاستمرار في إيواء ودعم حركات التمرد المناوئة للخرطوم، ودعت إلى طردها خارج الجنوب، متهمة حكومة الرئيس سلفاكير ميارديت، بالفشل في إدارة شؤون الجنوب، بسبب حرص شخصيات نافذة على خدمة أجندتها أكثر من مصلحة الجنوبيين، وقال الأمين العام لجبهة الإنقاذ الديموقراطية المعارضة بالجنوب، ديفيد ديل جال، إن الجنوب لا يستفيد من دعم المعارضين لحكومة السودان، وهو ما يستدعي إبعادهم وفتح صفحة جديدة للعلاقات مع الحكومة في الخرطوم، دفعاً للمصالح المشتركة، وأبان أن الجنوب تضرّر من استمرار وقف تدفق النفط العامين الماضيين، خاصة أن حكومة سلفاكير فشلت في إيجاد بدائل لوقف التدهور الاقتصادي الذي تعانيه البلاد. رأي الخبراء يجمع كل الخبراء والمراقبين للشأن السوداني، على أن إغلاق أنبوب النفط ستكون نتائجه وخيمة على الطرفين، وإن كان الجنوب سيتأثر بصورة أكبر حيث إن النفط يشكل 98% من الدخل القومي، مما قد يؤدي بدوره إلى أزمة اقتصادية واسعة المدى خاصة أن جوبا لم تكن تتوقع هذا القرار في هذا التوقيت وهو ما شكل صدمة لها وقضى على آمالها في تحقيق الانتعاش الاقتصادي المنشود، وقد يتسبب هذا القرار في تجدد المواجهات بين دولتي السودان، المتخاصمتين السابقتين، اللتين كادتا أن تخوضا حربا في أبريل 2012 بسبب احتلال قوات الجنوب لمنطقة هجليج الحدودية الغنية بالنفط، وهو ما أدى إلى تجدد القتال بين البلدين، غير أنه تمت تسوية الأمر عقب قيام القوات السودانية باسترداد المنطقة، وأجمع المراقبون على أن لجوء البلدين إلى خيار الحرب في مثل هذه المرحلة يعد خيارا انتحاريا حيث إن كلفة التورط في حرب شاملة أكبر بكثير من قدرتهما على تحملها وهو ما يوضح خطورة التوتر الذي تشهده العلاقات في المرحلة الراهنة ويؤكد الحاجة إلى احتواء الأمر في أسرع وقت ممكن. ..ووساطة "صينية" لاحتواء "الخلافات" أعلنت الصين عن قيامها بوساطة بين دولتي السودان لإيجاد حل سلمي بين البلدين، وعودة العلاقات بينهما إلى سابق عهدها، وإحلال السلام والأمن بينهما. وتلقى مبعوثها زونج جيا لهوا، شرحاً من الرئيس السوداني عمر البشير حول تداعيات قراره وقف عبور نفط الجنوب عبر الأراضي السودانية، الذي أكد في الوقت ذاته التزام بلاده بالاتفاقيات المبرمة بينه ودولة جنوب السودان، ودعمه لجهود الاتحاد الأفريقي والأطراف المعنية لمعالجة الأوضاع بين البلدين، بينما دعا مساعد الرئيس السوداني نافع علي نافع المجتمع الدولي والصين كدولة صديقة، للضغط على دولة الجنوب حتى تلتزم بتعهداتها واحترام الجوار. من جهته، جدد المتحدث باسم الخارجية السودانية، أبوبكر الصديق محمد ترحيب بلاده بزيارة نائب الرئيس الجنوبي رياك مشار للخرطوم. وقال إن وزارته تجري مشاورات مع الجهات المختصة، لمعرفة مدى ملاءمة الموعد الذي اقترحته جوبا، مع برامج الجهات المعنية. وفيما دعت الحكومة السودانية المتمردين إلى وضع السلاح، وتغليب صوت العقل، أعلن زعيم حزب الأمة القومي المعارض الصادق المهدي رفضه لاستخدام السلاح والعنف في حل صراع السلطة بالبلاد، وأكد أن حزبه ومع إقراره بحقوق ومطالب بعض حركات التمرد بدارفور لكنه ضد حمل السلاح والعمل المسلح. وقال المهدي إن حزبه سيسعى للجلوس مع حركات التمرد بغرض الوصول إلى حلول سياسية عبر التفاوض والحوار بدلا من الحرب.