أوغست رودان القادم من بوابات الجحيم المشرعة وصاحب جبين المفكر الشهير ومبدع وجه فرنسا المشرق، ارتبط اسمه بكاميل كلوديل تلك الصبية القادمة من ضواحي باريس بموهبتها الخام وأزاميلها المشحوذة وجمالها الريفي الغض لتلتحف بعباءة رودان كتلميذته الأثيرة. عندما عصف عشق رودان بقلب كاميل كانت ترفل في 18 ربيعا من العمر، وكان رودان حينها يعبر بوابة الأربعين الخريفية، وما لبث أن أخذ بها وبطرق إزميلها المبهر. كان لرودان طرقة إزميل مميزة تختلف عن أساتذته السابقين الذين اعتنقوا الصقل لأسطح التماثيل لإضفاء لمسة كمال على العمل النحتي. بينما استحدث رودان الإبقاء على آثار طرق الأزاميل لإضفاء لمسة الواقعية واستغلال انعكاس الضوء عليها لهذا كانت أعماله تبدو شاهقة الجمال في الأماكن العامة المفتوحة. أصبحت كامي لرودان الملهمة والحبيبة والتلميذة النجيبة وعبر معها 15 عاما من الحب العاصف، أبدع خلالها أجمل أعماله مثل تمثال بلزاك والمفكر وبرجوازيوا كاليه وبوابة الجحيم، بينما بقيت كامي تحت عباءته تناضل بإزميلها لشق طريقها وتخليد اسمها في مجتمع ذكوري لا يعترف بالمرأة في أروقة النحت حينها. في هذه الحقبة الزمنية من عمر كامي الفني تلبست أعمالها بروح رودان وغدا طرق أزاميلها يسكب إبداعه الذي تفوق في أحايين كثيرة على إزميل المعلم العاشق رودان، لكنها ما لبثت أن انتفضت ومزقت شرنقتها وخرجت من تحت جلبابه الذي نسجه حولها ما إن هجرها. يفصل النقاد أعمال رودان إلى مرحلتين.. ما قبل الانفصال عن كاميل وما بعده؛ حيث غدت أعماله يلفها الغموض والبرود. في الكفة الأخرى، خلد العاشق رودان وجه حبيبته الغائب في أكثر من عمل أجملها وجه فرنسا.. لكن بقي إزميله ثلماً لم يجبر له كسر، ومسكون بروح كامي الجريحة التي عصف بها الجنون بعد غيابه. في هذا الوقت كان وجع الهجر يدفع كاميل للأمام بخطوات جبارة بعد أن انسلخت تماما عن قلب حبيبها وغادرت ظلاله إلى رحاب الجنون الفسيح. ولأن لوثة الجنون هي شهقة الجمال الأخيرة للفنان أبدعت كاميل أجمل أعمالها في تلك الفترة كالمتضرعة.. التي جسدت قطعة من حياتها خلدتها لأجيال قادمة، صورت روحها الذليلة تركع متضرعة لحبيب كهل، ممزق بين امرأتين ويهم بالرحيل من أعمالها الخالدة أيضا: "الحورية العازفة"، و"فتاة جالسة"، إضافة إلى "كلوثو" الذي كان أقرب أعمالها إليها.. والذي كادت أن تحطمه في إحدى لوثات الجنون التي كانت تنتابها بعد رحيل حبيبها. وقد بقيت ردحا من الزمن ترتاب وتهجس بأن رودان يسرق أعمالها وأفكارها كما سرق قلبها فتسارع بتحطيم تماثيلها أو دفنها في أماكن سرية. ماتت كاميل كلوديل في المصح العقلي الذي أودعت فيه ل30 عاما متواصلة لم يزرها خلالها أحد من عائلتها الغاضبة على مسيرة حياتها المتمردة سوى أخوها الشاعر بول كلوديل. ماتت كاميل بعد أن فتك بها جنون الحب وجنون الفن معا، وخلفت وراءها ميراثا فنيا تتأمله الأجيال، وكانت وحدها كاميل من فاتها قطف ثمرة جنونها المبهر.