يقال في البدء كانت الكلمة، لكن التاريخ يقول إنه في البدء كانت طرقة الإزميل. طرقات قاسية متواترة لها أزيز فج صارخ يروضها فنان استثنائي ليرسم فوق حجر أصم حكاية خالدة أو ملامح حسناء أو طيات حريرية متقنة تقطر دفئا وعذوبة. فن النحت وحده من خلد لنا الجزء الأكبر من الحضارات البائدة، ونقل لنا حكايات أمم اندثرت، وترك لنا ميراث نقش على الحجر يرمم لنا جزءا من أوراق التاريخ المبتور. على اختلاف العصور اتخذ فن النحت صدارته وأهميته للمجتمعات وفقا لما يجسده من حقائق سواء كانت تاريخية كأخبار الحروب والمعارك أو دينية كتماثيل المعابد البوذية، والكنائس المسيحية أو سياسية كالنصب التذكارية للرؤساء والقادة. ازدهر فن النحت في عصر النهضة كغيره من الفنون، وأبدع مايكل أنجلو وتلاميذه بالأزاميل أروع الأعمال لرموز تاريخية ودينية. المتأمل في مسيرة فن النحت يجد أنه ينطفئ كلما اتجهنا شرقا حيث الالتزام بتعاليم الدين الإسلامي الحنيف التي تحرم أي مظهر من مظاهر الوثنية، بينما اتجه الفن الإسلامي المعماري إلى الزخرفة المتفردة بالجمال الرزين أكثر منه للتماثيل. فن النحت في الشرق يميل بشكل عفوي للتجريدية بعيدا عن تجسيد الكائنات الحية، على الرغم من انتفاء صفة الوثنية عن التماثيل في العصر الحديث واقتصارها على جماليات تحمل في طياتها رسالة أو فكرة أو ذكرى للمتلقي ولا تمتد بأي شكل من الأشكال للعبادة. وللحديث عن فن النحت لا بد أن نعبر من أهم وأجمل بواباته ألا وهو تمثال النصر المجنح الذي اكتشف على يد عالم آثار فرنسي عام 1863 عندما كان ضمن بعثة أثرية لجزيرة يونانية نائية. لم يُعثر على كامل أجزاء التمثال، بقي الرأس والذراعان مفقودين كاسم مبدع هذه التحفة الذي شاء التاريخ أن يبقى مثارا للتساؤل والبحث. وعلى الرغم من أجزاء التمثال المبتورة؛ إلا أن انسيابية ودقة هذا العمل ألهمتا الكثيرين من الفنانين لمحاكاته، كما فعل أبوت هندرسن عندما ترجم انبهاره بهذه القطعة التاريخية بأكثر من لوحة زيتية أبدعتها ريشته، أبرزها لوحة "عذراء" التي صور فيها بدقة ابنته الكبرى تتوسط أختيها بنفس قوام تمثال النصر المهيب وجمالياته المحكمة والتي تتجسد بشكل كبير في نحت طيات القماش المتطايرة للوراء بخفة حريرية بفعل الريح حتى يكاد المتلقي يشعر بنسمات الهواء تعبر ذلك الحجر وتبعث فيه الحياة. الوقوف المتأهب، وانحناءة الساق الممشوقة للوراء استعدادا للتحليق، وتفاصيل الجناحين المحلقين بخفة، كل ذلك يبعث الشعور بالانعتاق والخلاص والحرية المطلقة. تقول الأسطورة: إن تمثال النصر المجنح المنحوت من المرمر يخلد انتصار أحد قادة الإغريق في معركة قادها ضد أحد أعدائه. وأقول: يبقى للنصر جماله وخلوده وسطوته.. حتى لو كان بلا رأس. *كاتبة سعودية