الحس السليم أو الفطرة السليمة كما يطلق عليها البعض، لم تعد شائعة بما فيه الكفاية! فقد تمر على المرء أحداث أو يمر بخبرات في يومه تجعله يشك بأن الفطرة السليمة سمة غالبة! هنالك مقولة تفيد بأن «الحس السليم ليس هدية، إنه عقاب. لأنه عليك التعامل مع كل من لا يملكها»، فغالبًا ما يُحبط أولئك الذين لديهم الحس السليم من أولئك الذين لا يمتلكونه. إن الحس السليم ليس معرفة تتعلمها بل خبرة تكتسبها؛ إنها مستقلة عن المعرفة المتخصصة كالتي تقدم في المؤسسات التعليمية، بمعنى أنك لا تذهب إلى المدرسة لتكتسب الحس السليم، بل تحصل عليه من خلال التفاعل مع الحياة سواء كان ذلك داخل المدرسة أو خارجها. بالرغم من أن الأجداد أو لنقل السابقين، سواء من تراثنا أو ما وصل إلينا من تراث حضارات أخرى، قد تركوا لنا خرائط طريق ترشدنا إلى ما يجب أن نركز عليه، أو ما يجب أن نتفاداه على شكل أقوال وأمثال أو قصص، فإننا رغم تكرار مرورها علينا ننساها أو نتجاهلها، منها: (لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد)، (من زرع حصد)، (على قد لحافك مد رجليك)، (عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة)، (لا تقول فول حتى يصير بالمكيول)، (درهم وقاية خير من قنطار علاج)، (يمكنك أن تقود الحصان إلى الماء، لكن لا يمكنك أن تجعله يشرب).. والقائمة تطول. أما من الأمثلة التي تدل على مشكلة في الحس السليم: (تكرار الإجراء نفسه بأمل تحقيق نتيجة مختلفة)، (السعي وراء أحلام شخص آخر بدلاً من أحلامك)، (الحكم على الآخرين لمجرد أنهم مختلفون أو قد يبدون مختلفين عنك)، (الإيمان بأن الدرجات الجيدة في المدرسة تساوي التعليم الجيد)، أو(إن التخرج من مدرسة جيدة سيقود تلقائيًا إلى النجاح)، (اتخاذ القرارات في خضم نوبة غضب)، (ما يصلح لزيد يصلح لعبيد)، وهذه الأخيرة مني، وضعت المعنى لأنني لم أجد الأصل. ما دفعني للحديث عن الموضوع هو إيميل قديم بعنوان «نعي الحس السليم» - وجدته وأنا أمر على كل ما هو قديم لدي لحذفه للتخفيف من حجم المخزون لدي - كتب تقريبا في عام 2011 في صحيفة بريطانية يقول الكاتب: حزننا اليوم على وفاة صديق قديم غال على القلوب، (الحس السليم)، الذي كان معنا لسنوات عديدة، لا أحد يعرف على وجه التحديد كم كان عمره، لأن سجلات ميلاده ضاعت منذ فترة طويلة في خبايا أوراق البيروقراطية، وسوف يبقى في الذاكرة على أنه الذي صقل دروس قيمة للبشرية مثل: (معرفة متى تحتمي من المطر)، (لماذا يحظى الطائر المبكر بالدودة)، (الحياة ليست عادلة دائمًا) و(ربما كان الأمر خطئي). عاش (الحس السليم) من خلال سياسات مالية بسيطة وسليمة (لا تنفق أكثر مما يمكنك أن تكسبه) وإستراتيجيات موثوقة (الكبار، وليس الأطفال، هم المسؤولون). بدأت صحته تتدهور بسرعة عندما وضعت لوائح قد تكون بحسن نية لكنها متعجرفة، أخرجت تقارير مثل، تلك التي كانت عن طفل يبلغ من العمر 6 سنوات، واتهم بالتحرش الجنسي لتقبيله زميلة الفصل، والمراهقون الذين تم تعليقهم من المدرسة لتناول كمية كبيرة من غسول الفم بعد الغداء، وطرد مدرس بتهمة توبيخ طالب جامح، ما أدى إلى تفاقم حالته! فقد الحس السليم مكانته عندما هاجم الآباء المعلمين لفعلهم الوظيفة التي فشلوا فيها وهي (تأديب أطفالهم المشاغبين)! وازداد الأمر سوءًا عندما طُلب من المدارس الحصول على موافقة الوالدين قبل إعطاء واقي الشمس أو الأسبرين للطالب، لكن لم يسمح لهم إبلاغ أولياء الأمور بحمل طالبة أرادت إجراء عملية إجهاض! فقد الحس السليم إرادة الحياة عندما تحولت الكنائس إلى مراكز أعمال، وبات المجرمون يتلقون معاملة أفضل من ضحاياهم. تعرض الحس السليم للضربة القاضية، عندما لم يعد بالإمكان الدفاع عن النفس من لص في منزلك، بل قد يقاضيك السارق بتهمة الاعتداء! وأخيرًا تخلى الحس السليم عن إرادة الحياة بعد أن فشلت امرأة في إدراك أن فنجانًا من القهوة كان ساخنًا ولا يصلح أن يوضع في الحجر، وعندما انسكبت قليلًا على ساقيها، حصلت فورًا على تسوية ضخمة. سبق الحس السليم في الموت: - والديه، الحقيقة والثقة. - زوجته: الحذر. - ابنته: المسؤولية. - ابنيه: الاجتهاد والعقل. بقي بعده إخوته الخمسة: - أنا أعرف حقوقي، - أريده الآن، - شخص آخر هو الملام، - أنا ضحية، - وادفع لي مقابل عدم القيام بأي شيء. لم يحضر الكثيرون جنازته لأن قلة قليلة أدركت أنه... رحل! هذا النعي كان قبل التغييرات الأخيرة التي حدثت لديهم في الغرب، فاليوم يريدوننا أن نتقبل أن الحمار يبيض، والبقرة تحج على قرونها! أظن أن الكاتب سيراجع نعيه، خاصة فيما يخص السؤال التالي: «ماذا تعني كلمة امرأة»؟ لأن إجاباتهم سوف تنسف ما تبقى من الحس السليم!