قرأت في صحيفة لندن تايمز (London Times) نعيا قديما كُتب بطريقة إبداعية رائعة، فأوصل بكل بساطة، عن طريق ما يسمى بالأسلوب الساخر، رسالة مهمة لسِمَة فقدناها اليوم في زحمة انشغالنا بأمور الحياة اليومية! ابتسمت وأنا حزينة وأنا أتابع قراءة النعي. تذكرت مقولة أجدادنا: «هَمّ يُضحك وهَمّ يُبكي»!. بدأ النعي بالآتي: اليوم نحزن لوفاة صديق قديم محبوب، الحسّ السليم (Common Sense)، الذي كان معنا لسنوات عديدة، لا أحد يعرف على وجه اليقين كم كان عمره، حيث فُقدت سجلات ولادته منذ فترة طويلة بسبب شريط البيروقراطية الأحمر! سوف نتذكر أنه قام بزرع دروس قيّمة في دواخلنا، مثل: معرفة متى نخرج من تحت المطر، لماذا يحصل الطائر المبكر على الدودة، وأن الحياة ليست دائما عادلة، وربما كان ذلك بسبب خطئي، واليوم بعد فقدانه ليست معرفة الخروج من المطر هي التي نجهلها فقط، بل أيضا معرفة الخروج من المواجهات التي لا معنى لها ولا طائل منها، ومعرفة الخروج من القضبان التي رسمها الغير لنا، بل معرفة الخروج من عالم افتراضي قبل أن نغرق في بحره. وهل نحتاج لأن نفسر فوائد العمل في بداية النهار، أو لنقل التوصل إلى النتائج مبكرا ولا نقضي وقتنا في التسلية وتضييع الوقت، ثم نشتكي من ظلم هذا وتعدّي ذاك، وماذا عن عدالة الحياة؟! عدل الله -سبحانه- واضح، ولكن عدل البشر يتأرجح بين الحق والباطل، أحيانا تأتي الفرص، وأحيانا تذهب إلى غيرك، أحيانا يأتي الرزق، وأحيانا يذهب إلى غيرك، أحيانا تسعى أنت، ويفوز غيرك! فهل تتوقف وتتجمد في مكانك وتندب حظك؟! أم تفعّل ما لديك من ملكات التفكير، وتبحث عن طريق آخر؟ ونأتي إلى معرفة أننا أحيانا كثيرة لا نفكر حتى بأن الخطأ قد يكون منا وليس من الآخر، بالطبع نحن مشغولون بتجميع شحنات الغضب لكي نصبها فوق رأسه، ولا نتوقف ولو قليلا لدراسة الموقف! لقد عاش الحسّ السليم بواسطة سياسات مالية سهلة وواضحة وسليمة: لا تنفق أكثر مما يمكنك كسبه، وإستراتيجيات موثوقة: الكبار وليس الصغار هم المسؤولون! انعكست الآية، وأصبحنا ننفق أكثر من اللحاف والسجادة، بل أكثر من فرش البيت بأكمله، ألم يقل أجدادنا يوما: «على قدّ لحافك مدّ رجليك»! وا أسفاه على الحال التي وصلت إليها التربية! لا تعاقب تعقد، لا تصرخ تهز، لا تتدخل تبعثر وتشتت، وهلمّ جرّا من اللاءات التي دخلت معجم التربية مؤخرا، فتحول الكبير إلى مجرد نقطة في صفحة الصغير، يحركها يمنة ويسرة كما يحب ويهوى. بدأت صحته تتدهور بسرعة عندما تم وضع لوائح بكل حسن نية ولكنها متصلفة، تقارير عن طفل في السادسة من عمره متهم بالتحرش الجنسي لتقبيل زميل له بالفصل، حرمان طالبة في المرحلة الابتدائية من الدراسة بسبب الشكل الخارجي لعباءتها، توقيف معلم وإحالته إلى التحقيق بسبب توبيخ طالب مشاغب ووقح، والذي تأثر وساءت حالته النفسية بعد تعرضه للتوبيخ. فقد الحس السليم الأرضية عندما هاجم أولياء الأمور المعلمين والمعلمات بسبب قيامهم بالمهمة التي فشلوا هم أنفسهم في القيام بها لتأديب أطفالهم الجامحين، وتراجعت بدرجة أكبر عندما طلب من المدارس الحصول على موافقة أولياء الأمور في حالة صرف مرهم الوقاية من الشمس أو حبة أسبرين للطالب، وتسلم الطالبة المعنفة إلى وليّ أمرها، وبعدها يتم التعامل مع القضية من قبل المتخصصين. فقد الحس السليم إرادة العيش حين تحولت الدعوة في الدين إلى تجارة رابحة، وحين وجد الفاسدون معاملة أفضل من ضحاياهم، وتلقى الحس السليم الضربة القاضية حين لم يعد بإمكانك الدفاع عن نفسك من أحد المتسلقين على علم الوطنية، فقط لأنك لم تقم بتأييده أو الإدلاء برأيك أمامه، لم تؤيد لأنك ضد، ولم تتحدث لأن ما لم تقله له أوجه سلبية تخاف أن تعرضها، باتت الوطنية سلعة في المزاد، والشاطر الذي يزيد ويرفع السقف. وفي النهاية تخلى الحس السليم عن إرادة العيش، بعد الإفراج عن متهم بسبب أن جنية كانت بداخله، ولم يكن يقوم بأي فعل بإرادته، تمت مراجعة الحكم، ولكن للأسف بعد أن سلّم الحسُّ السليم الروح. سبق الحسَّ السليم إلى الموت: والداه الحقيقة والثقة، زوجته الحذر، وابنته المسؤولية، وابنه المنطق! ولقد بقي بعده إخوتُه الخمسة: أنا أعرف حقوقي، أريده الآن، أنا ضحية، الآخر هو المسؤول، وادفع لي مقابل عدم القيام بأي شيء. لم يحضر جنازته إلا القليل، لأن كثيرين لم يدركوا أنه رحل أصلا! إن كنتَ لا تزال تذكره فشارك في إحياء ذكراه بحوار فكريّ مع مَن حولك، وإن كنتَ لا تتذكره فانضم إلى الغالبية، ولا تفعل شيئا.