10.1 تريليونات قيمة سوق الأوراق المالية    1% انخفاضا بأسعار الفائدة خلال 2024    تستضيفه السعودية وينطلق اليوم.. وزراء الأمن السيبراني العرب يناقشون الإستراتيجية والتمارين المشتركة    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    البرهان يستقبل نائب وزير الخارجية    كاساس: دفاع اليمن صعب المباراة    قدام.. كلنا معاك يا «الأخضر»    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    إحالة ممارسين صحيين للجهات المختصة    جواز السفر السعودي.. تطورات ومراحل تاريخية    حوار «بين ثقافتين» يستعرض إبداعات سعودية عراقية    5 منعطفات مؤثرة في مسيرة «الطفل المعجزة» ذي ال 64 عاماً    التحذير من منتحلي المؤسسات الخيرية    لمن القرن ال21.. أمريكا أم الصين؟    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    مشيدًا بدعم القيادة لترسيخ العدالة.. د. الصمعاني: المملكة حققت نقلة تشريعية وقانونية تاريخية يقودها سمو ولي العهد    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    استشهاد العشرات في غزة.. قوات الاحتلال تستهدف المستشفيات والمنازل    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    مترو الرياض    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    مشاهدة المباريات ضمن فعاليات شتاء طنطورة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    الأمير فيصل بن سلمان يوجه بإطلاق اسم «عبد الله النعيم» على القاعة الثقافية بمكتبة الملك فهد    جمعية المودة تُطلق استراتيجية 2030 وخطة تنفيذية تُبرز تجربة الأسرة السعودية    نائب أمير الشرقية يفتتح المبنى الجديد لبلدية القطيف ويقيم مأدبة غداء لأهالي المحافظة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    المملكة واليمن تتفقان على تأسيس 3 شركات للطاقة والاتصالات والمعارض    اليوم العالمي للغة العربية يؤكد أهمية اللغة العربية في تشكيل الهوية والثقافة العربية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    طقس بارد إلى شديد البرودة على معظم مناطق المملكة    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    المملكة ترحب بتبني الأمم المتحدة قراراً بشأن فلسطين    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    وصول طلائع الدفعة الثانية من ضيوف الملك للمدينة المنورة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبدالله عبدالجبار مدرسة أدبية مستقلة ولونية نادرة من الفكر الثقافي4-7
نشر في البلاد يوم 23 - 12 - 2008

ليس الأدباء ملهاة يتلهى بها الناس ويعبث بها الأطفال وليس هو مائدة مباحة للمتطفلين، ولكنه عصارة النفوس والقلوب والعقول وصور للإنسانية لا يحذق تصويرها إلا اليد الصناع الماهرة، ولا تجيد ألوانها إلا ريشة الفنان الملهم. هكذا استهل الأديب والكاتب عبدالله عبدالجبار موسوعته في كتابها الرابع والتي قام بتجميعها الأستاذان محمد سعيد طيب وعبدالله الشريف ونشرتها مؤسسة الفرقان ممثلة في صاحبها الأستاذ أحمد زكي يماني، وقد تناول الجزء الرابع من الموسوعة جميع البحوث والنقد الأدبي والمقالات التي كتبها الأديب عبدالله عبدالجبار، والتي تناولت شتى دروب الثقافة وبعقلية أدبية راقية.
وقد تناولت الموسوعة كتاب المرصاد لمؤلفه إبراهيم هاشم فلالي الذي تناول العديد من البحوث النقدية لما كان ينشر في الصحف أبان النهضة الثقافية بالسعودية ويقول الفلالي في مستهل كتابه:
الصورة الأدبية للوجود الخالد لا يحسن تصويرها إلا الذين أوتوا القدرة عليها، وأولئك هم الأدباء الخالدون الذين لا يستطيعون إلا أن يكونوا أدباء أرادوا أم لم يريدوا، كالنحلة التي لا يمكن إلا أن تنتج عسلاً شهيّاً أرادت ذلك أم لم تُرِدْه، علمت به أم لم تعلم.
ولا يضار النحلة أن يتشبه بها الذباب، ولا يضيرها أن يشاركها في ارتشاف الرحيق من الزهور كما ترشفه هي سواء بسواء، ولكن الذباب لا يستطيع أن يفرز عسلاً وليس في وسع النحلة أن تفرز شيئاً غير الشهد.
وكما أن العسل الخالص من الشوائب فيه شفاء للناس، كذلك الأدب الصحيح فيه صلاح للإنسانية وسمو بها، لأنه روحها وهو الأفق الرحيب، الذي تترقرق فيه النسمات النقية المنعشة.
فعلى الذين تهمهم حياة الأدب في بلادنا أن يحرصوا على أفقه الرحيب، ولا يدعوا أبخرة الرؤوس الجوفاء تتسرب إلى نسماته العذاب النقية فتعكرها. نحن في فجر نهضة أدبية قد آذن ضحاها بالسطوع القوي الباهر، ولنا شبيبة ضمأى تريد أن ترتشف من مناهل الأدب ما يروي ظمأها، وأقرب ما يرتشقه الضمآن ما كان في متناول يده من نتاج أدباء بلاده وشعرائها. وحرام على المخلصين للأدب أن يتركوا شبابهم وفتيانهم يتنهلون من الماء الرنق، فلابد من تنقيته وتقديمه شراباً نقيّاً سائغاً ليضمن حياة أدبية صحيحة.
وقد آن لنا الآن ألا نتجاوز عما كنا نتجاوز عنه سابقاً، وأن تصحح الموازين الأدبية تصحيحاً لا يسمح بإدخال الغش فيها.
لقد بدأت هذه البلاد نهضتها الأدبية متطلعة كغيرها إلى حياة حافلة بالمعاني السامية، لتعيد مركزها الأدبي الذي كانت تتمتع به في ماضيها المجيد، ولتحتل بين شقيقاتها مكانتها الأدبية المرموقة، حتى لا تكون متخلفة عن لداتها في هذا المجال. وقد مضى عليها ما يقرب من ثلاثين عاما وهي تقرأ وتنتج حتى كونت لها نتاجا أدبيّاً لا بأس به، ويصح أن نسميه بالنسبة لمحيطنا ثروة أدبية، وقد أفادت هذه الثروة في رفع مستوى الذوق الأدبي، وضروري أن يرتفع هذا الذوق عن ذي قبل، فثلاثون عاما ليست بالزمن القصير، فهو إذا لم يرتق فيها كان كحكم المعدوم الذي لمَّا يخلق بعد. وللرعيل الأول من الأدباء فضل لا يجحده إلا من لم يقدر لذوي الجهود جهودهم، ولكن ليس معنى ذلك أن هؤلاء أجادوا في كل ما كتبوه، وكيف تتيسر لهم الجودة قبل أن تتوافر لهم أدواتها الكاملة، فهم لا يجدون طريقا ممهداً ولا أرضا معبدة ليبنوا عليها القصور الشواهق والحدائق الغن، وإنما وجدوا طريقا كله صخور وحفر، فكان همهم منصرفا لتعبيد الطريق، كما قال المازني عن نفسه وعن زملائه من الرعيل الأول للأدباء في مصر، وما يصدق على أولئك يصدق على هؤلاء، ولكن الرعيل الأول من أدباء مصر لم يكفهم أن يعبدوا الطريق لبني غيرهم ويقبعوا هم في أكواخ العمال، بل راحوا بعد أن توافرت لهم أسباب البناء يبنون القصور الشم، ويغرسون الحدائق الفيح، ولم يسمحوا لأنفسهم أن تكتفي بمجهودها الأول، ولا بما نالته من شهرة، وبذلك أثبتوا لنا أنهم كما يحسنون العمل بأداة العامل، يحذقون العمل بريشة الماهر، وأبوا إلا أن يكونوا عمالقة الأدب العربي في عصرنا الحديث، وسيكون مَنْ بعدهم عيالا عليهم أرادوا ذلك أم لم يريدوه.
فهل صنع رعيلنا الأول صنيع أولئك؟!
إن تحسن الإجابة على هذا السؤال ب (نعم) فلا يحسن أن نكتفي بها، فإننا إذا بحثنا عن مصداقها نجد كثيرين من الرعيل الأول نفضوا أيديهم من الأدب واستروحوا الراحة في البعد عنه، كالعامل الذي علقت به الأتربة والغبار وأضناه العمل، فنفض يديه منه، ليستروح الراحة في ظلال كوخه الحقير. أما الباقون فمنهم من لم يحاول تجديد نشاطه، ليكون لنتاجه رواء العزيمة التي لا تعرف الكلال، فجاءت آثاره مطبوعة بما ناله من جهد وضنى، وأولئك الذين لا يحسن بنا أن نتركهم يعبثون بحرمة الأدب، ولا أن نتركهم فريسة الغرور، بل من الرحمة بهم أن ننبههم لما وصلت إليه حالتهم من الجهد والإعياء لعلهم يعالجون أنفسهم بعد أن ينبهوا إلى الخطر المحدق بهم، فلا نفجع بفقدهم على غرة من المجال الأدبي. ومنهم من لم يعد صالحاً للحياة الأدبية، وخير لهؤلاء أن يستريحوا من عناء الأدب، ولهم في رصفائهم الذين نفضوا أيديهم من الأدب أسوة حسنة. أما الذين مازالوا يبذلون للأدب من نفوسهم ما يجعل آثارهم تفيض قوة وحيوية، فأولئك الذين نضع يدنا في أيديهم متعاهدين على أن لا نترك حياتنا الأدبية يعبث بها أدعياء الأدب ومن أدركهم الكلال إلا أن يجددوا نشاطهم. لنقدم لشبابنا أدباً صحيحاً قويّاً نظيفاً فقد طال بنا الأمد، ونحن نقبل الآثار على علاتها، أما الآن فلا نقبل منها إلا كل ما يثبت للنقد ويصلح للحياة، حتى لا يبقى مجال لأحد إلا لذي الفن الصحيح، وبذلك نأمن على مستقبل الذوق الأدبي في بلادنا ولا نصاب بالنكسة فيه، ونمشي قدمًا في إشادة مجدنا الأدبي الحديث.
لقد مرت - كما قلت - ثلاثون سنة ونحن نعالج الأدب نتاجا وقراءة، وكنا نأمل بعد هذه المدة أن نرى أدبا أقل ما يقال في حقه إنه أدب صحيح تشيع فيه الحياة ويبشر بمستقبل طيب. أما أن نرى فيه الغثاثة، ونلمح فيه تجرده من روح الفن الأصيل، فهذه هي النكسة بعينها، وذلك ما لا يحتمله المخلصون للأدب، والمجاهدون في سبيله.
بعد ثلاثين سنة من كفاح أدبي - قراءة ودرساً ونتاجاً ونقداً وتمحيصاً وتوجيهاً - يصدر العدد الممتاز من جريدة (البلاد السعودية) بتاريخ 3/ 4/ 66ه فأتناوله بلهفة.. لهفة من نأى عن بلاده ولا يزال نائياً عنها ولها في نفسه الحنين، ومن قلبه الحب، فهو يعيش في مصر بجسمه، وفي بلاده بفكره وقلبه ووجدانه، ويتطلع إليها كما يتطلع الظليم إلى أمه، ويستنشق روائحها في كل ما يصل إليه منها.
أدبيات الساحة
ويتناول الفلالي جانباً من إنتاجيات الأدباء في المملكة فيقول عن الآشي: لقد ملأ الأستاذ عبدالوهاب آشي صوت الحجاز حينما كان مهيمنا عليها شعراً ونثراً من نتاجه. وله في (أدب الحجاز) صولات وجولات وكان التوفيق حليفه في أغلبها، وهذا الأستاذ نعده من الأوائل السباقين الى تعبيد الطريق وتمهيده حتى تركوه صالحاً لسلوك غيرهم فيه. لكنه عاد ففتر نشاطه برهة من الزمان ولعل لفتوره سبباً من الأسباب القاهرة لأننا لا نراه الآن يعاود نشاطه الأدبي مرة أخرى وصرنا نرى له في البلاد السعودية والمنهل والحج والمدينة - بين الفينة والفينة - نتاجاً من الشعر والنثر وها هو يساهم في (كتاب شعراء الحجاز في العصر الحديث) بشيء من نتاجه. يمتاز الأستاذ الآشي بالجزالة وقوة الأداء في نثره، وأنا حينما أصدر هذا الحكم على نثره فإنما أصدر لأني قرأت له نثرا كثيرا فما رأيته إلا قويا جزلا. ولكنه في شعره يختلف اختلافا بينا ولعل حرصه على قيود الشعر هي التي تعوقه عن الوصول إلى المستوى الذي يريد لنفسه ويريده له أصدقاؤه ومحبوه. إن الأستاذ (عبدالوهاب) يحرص على التمسك بالقواعد والأصول اللغوية والعروضية فمتى ما صحت عنده الكلمة أو القاعدة فلا سبيل إلى زحزحته عن الصحيح الرشيق الأنيق، ولذلك نجد شعره مرسوما بسمة لا تقول انها سمة الجمود ولكنها سمة خالية من التموجات الشعرية التي لا تتجلى إلا في الكلمات الرشيقة الأنيقة إذا جاءت في موضعها. وإليك مثلا قصيدته (الحجاز مستقر الوحي والطبيعة الخرساء) فأول ما يطالعنا العنوان، فالحجاز ليس هو مستقر الوحي ولكنه مهبط الوحي.. والوحي إذا كان جبريل.. فجبريل مستقره السماء لا الحجاز. وإذا كان الوحي القرآن، فالقرآن مستقر في قلوب المؤمنين به في كل العالم الإسلامي.. ولنذهب إلى القصيدة:
دعاني أساجل أحرارها
وقوما لنقفو آثارها
فدعاني هنا صحيحة بمعنى اتركاني ولكنها ليست مشرقة في مكانها وخلياني - مثلا - أخف على السمع من دعاني. وقد تأتي خفيفة على السمع إذا كان معناها من الدعوة يقول: دعاني حبيبي لتقبيله أو ما شاكل ذلك.. ثم كيف يستقيم تركه والقيام معه في آن واحد، فهو في الوقت الذي يطلب أن يتركاه يطلب إليهما أن يقوما معه.. ولا أريد أن أتتبع القصيدة بيتا بيتا ولكن أريد أن أقول للأستاذ الآشي وهو كما عرفته يحب الدقة في كل شيء، فلماذا يترك الدقة في الشعر: ألم تقرر يا أستاذ أن الطبيعة خرساء، إذا فما معنى مساجلة الوحوش للأطيار في قولك:
تنائف تموج فيها الوحوش
تساجل في الدوح أطيارها
هذا تقرير بأن الطبيعة في بلادنا خرساء، ما دامت فيها طيور ووحوش تتساجل، وإن كانت هذه المساجلة لم تعقد بالمرة بين هذين النوعين المتنافرين في تاريخ بلادنا الطويل. ثم تقول:
إذا الليل أرخى ستائره
أرتك الكواكب أنوارها
وهذه ميزة لا تختص بها الكواكب في بلادنا، بل في كل إقليم إذا جاء الليل أنارت الكواكب.. إنه كقولك إذا عطش الإنسان شرب، وإذا جاع أكل، وهذا ما أردته من انعدام التموجات الشعرية في شعر الأستاذ الآشي. ثم تقول:
بلاد سمت بالأولي عرفوا
طريق المعالي ومضمارها
كبار النفوس قصيرو المرا
م شهدوا الحياة وأسرارها
مرصاد المرصاد
في ملاحظاته عن كتاب المرصاد لمؤلفه إبراهيم فلالي، كتب الأديب عبدالله عبدالجبار تمهيد النقد فقال:
آليت على نفسي، منذ أصدر صاحب المرصاد مرصاده، أن أناقشه الحساب عسيرا، وأن أضع لمرصاده مرصادا يسجل عليه هزاته في النقد كما سجل هو هزات الأدباء في الأدب، وأن أقيم الموازين القسط له أو عليه.
كان ذلك غرضي منذ صدر مرصاده الأول، ولكن مشاكل العمل حالت بيني وبين ما أريد، واليوم (يخرج) علينا الأستاذ الفلالي بمرصاده الثاني، ويتيح لي قراءته، ومناقشته قبل نشره كأنما يريد أن يستثيرني، ويستفزني، ويدفعني إلى الكتابة دفعا رغم أني غارق في خضم من المشاكل والهموم.
وأول ما يحفزك على نقد الفلالي أنه يضع أمامك مبدأ يسير عليه ويدعو الناس إلى اعتناقه، وهو مبدأ عدم المجاملة في النقد الأدبي.. وسأقول أنا للأستاذ الفلالي ما يقوله هو للأدباء.. "أصبحنا بعد ثلاثين سنة أصحاب وعي مبصر، فلا تجوز علينا لعبة الحواة، والتواءات البهلوان، ولن تسترق عقولنا، ولسنا من السذاجة بحيث نحسب البيضة كتكوتا، أو أنف الإنسان قناة يسيل منها الماء، وإذا كانت ألعاب الحواة تسترق الانتباه ساعة من نهار فإن الساعة لن تصعدهم إلى مكان أعلى من مكان الحواة، ولا بأس أن نقول لهم: إنكم حواة بارعون!"
فهل لك أن تسير معي - أيها القارئ الكريم - في مرصاد المرصاد لنرى صحة هذه القاعدة ومدى انطباقها على الأدباء المنقودين وعلى الناقد نفسه، لأنه في نظري بعد طول مشاهدتي له على مسرحه هذا (المرصاد) لم يعد أن يكون أكثر من حاو بارع وبهلوان كبير.
فلنمض معا، ولنتتبع سيره خطوة خطوة، وعثرة عثرة.
عدنان أسعد
"قالوا: الشمس والقمر عقربا الساعة، قلت: والنجوم ثوانيها".
قال الفلالي: "إنها لفتة ذهنية بارعة". ولما قرأنا معاً هذه الفقرة ضحكنا ضحكا شديدا، ولا تسلني أيها القارئ لماذا ضحكت؟ وإنما سل الفلالي لماذا ضحك؟ وقد كددت الذهن بحثا عن الفحوى والمغزى فلم أجد شيئا، وضاع المعنى المراد في هذه اللفتة الذهنية البارعة وتعلمت أنا شيئا جديدا من الأستاذ الفلالي وهو أن اللفتة الذهنية البارعة هي التي يضيع فيها المعنى ولا نفهم منها شيئا! وقال الأستاذ عدنان: "يا من دعوت الله فلم يستجب لك. هلا غسلت قلبك بصابون الإيمان!"
ربما كان المعنى المقصود من صابون الإيمان جليا واضحا، ولكن أترون هذه الكلمة كلمة أدبية تليق بمقام حكم بليغة مرسلة؟ ثم ما الفرق بين الأديب وبين بائع عصير القصب الذي كتب على (حانوته) (عصير الإيمان). وبائع القصب هذا في طريق الفلالي إلى منزله يراه كل يوم!.
عفا الله عنك يا فلالي ففي كتاب (جمر وخمر) زهرات فنية جميلة ولكنك لم تختر إلا الشوك والزقوم، وعذرا لك يا عدنان مما جنى الفلالي.
عبدالله خطيب
لهب مشتعل، وبركان ثائر.
آل على نفسه أن يحرق ما يراه بالياً من أوضاعنا المنحرفة، وموازيننا المختلة، ولكني إخاله لم يحرق إلا نفسه، ولعل عزاءه الوحيد أنه قام بواجبه، وأرضى ضميره. وهو إنساني - بكل معاني هذه الكلمة - كما قال الفلالي وإنسانيته ملموسة يعرفها أصدقاؤه، ولديهم عليها أمثلة عدة.. وسوف لا أذكرها حتى لا أجرح كرامة الرجل الذي يصنع المعروف لذات المعروف، ويستجيب لداعي الشهامة لذات الشهامة!
شاعر مقل، عذب الحديث، قوي الروح، يمزج أسلوبه في الحديث بفكاهة ساخرة مريرة، لعلها أمضى سلاح يدافع به عن نفسه.
قد أنصفه الفلالي، ولا يقدر الرجال إلا الرجال، ولا يعرف البائسين، إلا من صارعوا الآلام، وقاسوا مثلهم مرارة البؤس والحرمان.
(ألا ما أعظم عبدالله خطيب! لقد كان خليقا أن يكون أنجح رجل في بلادنا لو صحت في مجتمعنا المختل الموازين، مقاييس النجاح والإخفاق!).
نزاهة، ونظافة، وإنسانية رحيمة، ووطنية صادقة، أتريدون أسمى من هذه الخلال؟
الغزو الفكري
لم يغفل الأديب عبدالله عبدالجبار عن جانب إلا وتناوله فها هو يسرد جميع جوانب الغزو الفكري للثقافة العربية فيقول :
حينما تُمنى أمة من الأمم بكارثة الاستعمار، فإنه لا ينهب ثرواتها المادية فحسب، وإنما يقضي على ثرواتها الروحية كذلك، ولا يسجن حريتها الشخصية والسياسية وحدها، وإنما يسجن معها أيضا لغتها القومية، ذلك لأن هذه اللغة تحمل في طياتها الثقافة الوطنية للأمة، والروح الأصيل الساري في كيانها عبر التاريخ.. ومن أجل هذا تتجه الفلسفة الاستعمارية إلى القضاء على هذه اللغة الوطنية أو خلخلتها وصرف الشعب عنها، حتى يتاح له اقتلاع شخصية الأمة المستعمرة من جذورها، وحينئذ يتسنى له إحكام قبضته ويتمكن من استغلال خيراتها أتمّ وأوفى استغلال.
هذا هو السر في إصرار الاستعمار على فرض لغته على الأمة المنكوبة به حتى تفكر تفكيره، فاللغة، كما هي وسيلة تعبير، وسيلة تفكير أيضا، وسرعان ما يفرض المستعمر "أيديولوجيته" الاستعمارية عن طريق هذه اللغة مستعينا بفئة تتعلم لسانه وترتبط مصالحها بمصالحه، يمكِّن لها في رقاب الشعب وابتزاز ثرواته.
غزو الكيان اللغوي
إن اللغة باعتبارها أداة توحيد وتوصيل، قد تعرضت في النتاج الأدبي والثقافي، لكثير من البلبلة والغموض لطغيان الثقافة الأجنبية على الثقافة العربية..وقد قرع الأستاذ عبدالعزيز الرفاعي جرس الخطر، في محاضرته عن "التراث" ونعى على بعض المثقفين العرب تحول اللغة عندهم إلى رموز مبهمة وعجمة فكرية عجيبة قال:"إن بعض المثقفين يصطنع طرائق جديدة للتعبير ذات ظلال فكرية غريبة عن المناخ العربي.. إنها أزمة جديدة هي أزمة تأرجح التعبير عند بعض المثقفين بين اللغة العربية كرمز تعبيري، وبين الأشباح الفكرية الغامضة التي يريدون منا أن نتفهمها".
"استعملوا الحرف العربي، ولكنهم كانوا يفكرون بعقول غير عربية أو بعقول انفصمت كليا عن التراث العربي فهي إنما تتحدث عن أجواء غربية، ثم لا تطاوعها في ذلك ملكة عربية.. فالملكة العربية إنما هي حصيلة تراث وهم أمثلة حية للآثار الخطيرة التي يسببها البعد عن التراث" واتهم الرفاعي هذه الفئة بجهلها بالأمجاد والبطولات العربية وبالفكر العربي، الذي "أثرى الإنسانية بروائع الأدب العربي في الجاهلية والإسلام، وجماله، ودقة أوصافه ، وحماسته، وذخائره العظيمة".
وهذا كله صحيح.. بيد أن المسألة لو اقتصرت على الجهل لكان الأمر أهون فالجاهل يتعلم، وسيأتي عليه يوم يتذوق جمال العربية وأسرار بلاغتها، ولكنها أخطر من ذلك بكثير. إنها خطة مدروسة بدقة وعناية وفلسفة في الأدب لها سدنتها وكهانها.. ولست أقصد رمزية "بشر فارس" أو "ألبير أديب" وأضرابهما.. ولكني أقصد الحركة التي يتزعمها "أدونيس" صاحب مجلة "مواقف" في لبنان، الذي يدعو إلى تغيير الشعر العربي، وأن هذا التغيير ليس تغييراً في الشكل أو طريقة التعبير وحسب، وإنما هو قبل ذلك تغيير في المفهوم ذاته "وفي العدد 17، 18 من مجلة "مواقف" يقول: "إن هذا العدد يشكل بالقصائد التي يتضمنها، نواة لمرحلة متميزة في التجربة الشعرية الجديدة" ويرى إمكان تحول الجامعة اللبنانية إلى مركز أول لحركة الشعر الجديد في لبنان، وفي هذا العدد نقرأ لكمال أبو ديب من قصيدة "مرثية العالم القديم" ما يأتي:
أخلق اللغة بالصمت
وأنفذ إلى فجر الكلمات الجديدة
اللغة الجديدة كالنهر.
أفصل بين الحرف والحرف، بين الكلمة والكلمة:
أقلب الجمل كالرؤوس
أتركها بلا بناء. مبعثرة مثل طابات التنس
أبرأ من نسغ الكلمات الراكدة في الدم
أخلق لغتي وأنشر كلماتي كالطائرات الهاوية
متى أطرد لغة السهم والحراب والنخيل والجداول والمراعي
أدور مثل مركبة قمرية في مدار اللغة"
إذن فهي ثورة على مفردات العربية وتراكيبها .. والشاعر يريد ترك الجمل مبعثرة بلا بناء، ولكنه في ثورته لا يملك إلا التعبير بهذه اللغة التي سماها داجنة..
"من جديد أقع في حبال اللغة الداجنة وأزهارها العتيقة"
وأدونيس يتصور اللغة مثل آنية مليئة بأشياء ماضية، ويقول: أول ما أعمله أن أفرغ هذه اللغة من محتواها وأحاول أن أشحنها بدلالات جديدة تخرجها من معناها الأصلي.. ثانياً أبدل علاقتها بجارتها.. ثالثاً أغير جذريّاً النسق الموضوعة فيه وبهذه الأفعال الثلاثة يخيل إلي أنه يمكن أن ابتكر لغة جديدة".. وهو يشعر بأن هذا هو ما يعوق الاستجابة لشعره، وعلى ذلك فنحن بإزاء فعل واع لإفراغ اللغة من مضمونها الأصلي وتغيير العلاقات بين مفرداتها... بل إن الغموض هدف مطلوب لهذه المدرسة:"قيمة القصيدة في المقياس الكلاسيكي العربي هي في وضوح المعنى واكتمال الشكل.. أما قيمة القصيدة بدءاً من النفرى فهي على العكس- في كونها توحي بأكثر من معنى وفي كونها لا تكتمل بل تظل مفتوحة"، وأدونيس في مرحلته الثالثة، يدين "بالباطنية الجديدة" التي تتجاوز الصورة الخارجية إلى المعنى .. ولم تكن ثورته على اللغة لأنه جاهل بها، كلا فهو شاعر مثقف، أصدر ديوان "الشعر العربي" في عدة أجزاء..وهو مختارات رائعة تدل على ذوق مرهف واطلاع كبير.. بل إنه بعد أن خرج من وهم التثبت بفكرة إعادة أمجاد الحضارة الفينيقية، وانتقل إلى مرحلته "العربية" أصدر ديوان "المسرح والمرايا"، وديوان "كتاب التحولات والهجرة في أقاليم الليل والنهار" الذي صور فيه نضال "صقر قريش" لبناء الدولة العربية في الأندلس أبرع تصوير.. وحسبنا أن نستشهد بشيء من قصيدة "الحسين بن علي" دليلا على ذوقه العربي وإبداع شاعريته حين يكتب بلغتنا الجميلة دون تغيير في دلالاتها وعلاقاتها:
وحينما استقرت الرماح في حشاشة الحسين
وازينت بجسد الحسين
وداست الخيول كل نقطة في جسد الحسين
واستلبت وقسمت ملابس الحسين
رأيت كل زهرة تنام عند كتف الحسين
رأيت كل نهر.. يسير في جنازة الحسين
وفي موضع آخر منها يقول:
ألا ترى الأشجار وهي تمشي
حدباء في شكر وفي أناة
كي تشهد الصلاة
ألا ترى سيفا بغير غمد يبكي
وسيافاً بلا يدين
يطوف حول مسجد "الحسين"
عجبا كيف يقوم "أدونيس" بدعوة نفي التراث مع أن أجمل شعره مأخوذ من التراث؟ وأنا لا أعارض الحرية في تطوير الشكل الفني، فالحكم في ذلك للزمن..ولكني أتساءل: كيف تشيد مجلة "مواقف" بالفدائيين وتدافع بحرارة عن المقاومة الفلسطينية ثم تستطيع بدعوتها هذه وشعرها هذا الجديد، أن تهيِّئ الجماهير لمعركة المصير.. إن علينا أن نخاطب الجماهير بروحها وفهمها وهي روح عربية وفهم عربي.. فهل يمكن لهذا الشعر الجديد أن يصل إلى أعماقها؟..
ترى هل يستطيع "الخراب الجميل" الذي بشر به أدونيس في أحد آثاره أن يحل قضية فلسطين وقضية الشكل في الشعر العربي..؟ ولكن لماذا يثور "أدونيس" على اللغة العربية؟ أتراها محض مغامرة فنية لاكتشاف شكل أو لون من الشعر جديد، أم أن وراء هذه الثورة أهدافا أخرى؟
إنه يفعل ذلك - حسب تعبيره - "لأن استمرار البنية التعبيرية القديمة دليل على استمرار البنية الثقافية الذهنية القديمة، فتحطيم البنية التعبيرية إذن دليل على الخروج من البنية الثقافية القديمة".
وهو يحطم البنية الثقافية القديمة لأنها تخلق "الجمالية الموروثة، جمالية الخضوع للمعيار، وهي وليدة الأيدولوجية الدينية التي تعلم الإنسان أنه ليس موجوداً في طبيعته الخاصة ، وأن وجوده الحقيقي، إنما هو خارج هذه الطبيعة"، ويصور علاقة شاعرين أولهما تقليدي، وثانيهما ثوري بالجمهور فيقول:"الأول يقول للجمهور: إن ما نرثه من دين ونظم أخلاقية وتقاليد الخ.. مجد عظيم لا يضاهى، والثاني يقول له: عليك أن تعيد النظر جذريّاً في هذا المجد لأنه مبعث اغترابك عن ذاتك" وهو يرى أيضا "أن الوعي الطبقي ما يزال ملموسا بالهيمنة الدينية، وعلى الأخص المؤمنون جماعة واحدة، أمة واحدة الخ..."، ولذلك فإن الصراع الطبقي ما يزال هو الآخر مطموساً".
إذن فتحطيم الثقافة العربية واللغة القومية والقيم الروحية، والعنعنات الأصيلة، وإشعال الحرب بين الطبقات هي أهداف "أدونيس" من ثورته على العربية في الوقت الذي تخوض فيه العروبة معركة التحديات ضد الصهيونية والاستعمار. إن تراث الأمة هو ذاكرتها، وشيء فظيع أن يفقد فرد ذاكرته، أما أن تفقد ذاكرتها أمة بأسرها فشيء وراء حدود التصور، وهذا ما يريده "أدونيس" وأضرابه لأمة العرب، في الوقت الذي يعتبر فيه العدو هذه الذاكرة عنوان عبقريته وأعظم خصيصة يعتز بها، ويحرص عليها وينميها لأنها الرباط الوثيق بين الزمان والمكان، والإنسان اليهودي طعباً. يقول "حاييم هزاز" رئيس اتحاد الأدباء العبريين: "إن عبقرية الشعب اليهودي تكمن في ذاكرته التي ظلت تعي على امتداد عشرين قرناً كونه وحدة غير قابلة للتفتت"، كم أنا حزين لهذه المقارنة بين أديب يهودي يبني باطل أمته، وأديب عربي يحطم كيان عروبته وأمجاد وطنه وحق أمته.
لقد دخل أدونيس مرحلته الرابعة "الهدمية الجديدة" .. لا ضير ما دام الوعي العربي بالمرصاد!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.