عندما صنعت طاولة الحوار أُختير لها الشكل الدائري ليحظى الملتفون حولها بنفس القدر من الأهمية؛ ولكل منهم أن يبدي وجهة نظره دون الشعور بالإقصاء أو الإحساس بالتهميش، ولكن سرعان ما تحول وضع تلك الطاولة من التعادل إلى التطاول؛ لتصبح جهةً واحدةً تقرر مصير الملتفين حول تلك المستديرة؛ لأن صاحبة القرار لم تكن تجلس على طرفها ولكنها كانت متربعةً على الطاولة نفسها، وتصدر من خلال موقعها أوامرها غير القابلة للنقاش. ولكن وفي غفلة من التأريخ عمل أهم أعضاء الفريق على إنشاء طاولة ذات أضلاع ثلاثة، وأجبرت صاحبة المستديرة على الترجل من موقعها الأناني لتجلس مجبرةً على هذه المثلثة محتملة الزيادة، ولعل هذه الطاولة تتناسب والفترة الحالية من حيث تعداد أطراف الصراع الذي يوشك أن يحتدم بين أقطاب العالم الثلاثة (أمريكا، روسيا، الصين)، ونستطيع أن نقول إنه لقاءٌ بين الخبرة والشجاعة والمكر، ولكن ربما شكل هذه الطاولة الثلاثي غير محفز لهم للجلوس معًا لتجاذب أطراف الحديث؛ لعلمهم المسبق بأسباب الصراع ومسبباته، والتي ربما ستجعلهم ينحون اتجاه تقاذف المسؤليات بدلاً من البحث عن مخرج لهذه الأزمة، لذلك فلا يزال الثلاثي الخطير ينتظرون من سيبدأ بتقديم التنازلات، وينظرون من نافذة الأمل كمن ينظر من سم الخياط، باحثين عن أقصر الطرق للخروج من هذه المعضلة بأقل الخسائر. هنا سنضع أحد السيناريوهات المحتملة للقاء القمة، دون النظر للنتائج وسنترك للقارئ العزيز أن يبني تنبوءه بها وفق بعض الدلالات والإشارات، رغم سطحيتها، ليطلق لعنان فكره ما يجود به الخيال من توقعات، فعندما تلتقي الجموع سيحضر كل طرف منهم أوراقه الرابحة، والتي ستدعم موقفه في تسيير الحوار نحو أهدافه المحددة. ففي الجهة الغربية ستحضر أمريكا وتحضر معها كامل أوراقها بكل ما عرف عنها، وفي مقدمة هذه الأوراق شارة قيادة العالم، بالإضافة لحقيبة ضخمة مدججة بلوائح طويلة من العقوبات، وستلفت عناية السادة الحضور لأهمية علمهم بقواعدها العسكرية لدى حلفائها في الشرق، وأما الروس فسيحضرون كرت شرارة الحرب العالمية الثالثة، ويستعدون لتذكير الحاضرين ببرد الشتاء وأهمية الغاز، حاملين بأيديهم بعض عملات الروبل في تهديد صارخ للدولار، ولتذكرهم أيضًا بعملة الشراء المقبولة لديهم، كما أنهم سيحملون معهم سلة معبأة بالقمح في إشارة للنقص المحتمل في غذاء العالم وانتشار المجاعات في الدول الفقيرة، وبخاصة بعض دول أفريقيا، خصوصًا عندما تخلت عنها فرنسا التي تحاول إعادة ترتيب أولوياتها استعدادًا للأسوأ. أما الصين وما أدراك ما الصين، صانعت الفرص وكاسرت التسلل، مصنع العالم ومبتكرة التكنولوجيا الحديثة والعملات الرقمية، فكما بنت سورها العظيم فقد وضعت أساسات مجدها القادم، فلا تكاد توجد غرفة في منزل في العالم إلا وبه مما جادت به أيدي الصينيين، كما أن التوجه الرقمي للعالم الجديد يأخذ منحى شرقيًا هذه المرة (صينيًا بالتحديد)، والذي أثبت تفوقه على الجميع بالرغم من محاولة إخفائه أو التقليل من أهميته. إن التقارب الروسي الصيني ووحدة المبادئ التي تفضي لتكوين عالم جديد متعدد القطبية مع وجود القوة العكسرية والقدرة الاقتصادية، وفي ظل زخم التطورات الحالية، يدفع بأمريكا والغرب نحو خيارين أحلاهما مر، فإما الوقوف في حيرة بين القبول بالواقع المؤلم والرضوخ للمستقبل المؤسف، أو التحرك سريعًا نحو إشعال فتيل الأيام التي ستعجل لهم ما يخافون حدوثه، لذا فإن الوقت المناسب للقبول بالجلوس على الطاولة أيًا كان شكلها هو المطلب الأكثر إلحاحًا في الوقت الراهن والمسارعة بشجاعة لتقديم التنازلات على الرغم من أن الثنائي الشرقي لا يرى ذلك إلا أحد مفاتيح الحوار.