استيقظ اليوم سعودي بسيط على صوت المآذن تصدح بكلمة الحق، يسيل الماء العذب بين أصابعه ليخبره أن الحياة في بلادي سهلة وعذبة..يسير في الشارع آمنا مطمئنا لا يخاف إلا الله، وقلبه يردد خاشعا دعوة أبينا إبراهيم: "رب اجعل هذا البلد آمنا" وبعد أداء صلاة الفجر مع جموع المسلمين، وقد حفه من اليمين جاره السوري، ومن اليسار صديقه المصري، وخلفه زميله الهندي، وأمامه زميل ابنه البنغالي.. ابتلت عيناه وهو يشاهد هؤلاء وغيرهم، يتخذون أماكنهم في المسجد الكبير النظيف البارد، ما بين مسبح ومستغفر وتال للقرآن الكريم، الذي تزين نسخه الخضراء البهية جنبات المسجد، في صورة مهيبة تحفها الطمأنينة والبركات.. يقبل الخباز الأفغاني ورقة نقدية بقيمة خمسة ريالات، ثم يناوله رغيف التميس وعلبة الفول، فيتناولها بمعية أسرته ووالدته المسنة.. يقول متأثرا: اليوم ذكرى البيعة السادسة لخادم الحرمين وولي عهده. فتجيبه والدته وقد تزاحمت في عينيها مئات الصور المتداخلة من الماضي البعيد: الملك لله ثم للملك عبد العزيز الملك لله ثم للملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده.. تقولها وهي تسمع حوافر الخيل تركض في ذاكرتها المئوية، وصهيلها يملأ روحها التي تفيض بالامتنان، وهي تتأمل السفرة أمامها، ما بين شاي ساخن وعصير بارد وجبن حامض وحليب محلى، شابورة قاسية ولبنة طرية، تميس أفغاني وخبز شامي، وزيت زيتون إسباني.. فتصفر في خباء ذكرياتها ليالي الجوع الطويلة، التي كانت تنتهي بصباح جائع أيضا.. تتذكر وهي طفلة بائسة، ترقب والدها وهو يخرج خاوي البطن، متأبطا بندقيته للثأر لعمها، الذي قتل غدرا وهو يحتطب بين تلك الشعاب المقفرة الموحشة.. تسافر في رحلة الذكريات الدامية بين جوع كافر وجار غادر، وحياة تتوسد البؤس وتتدثر بالخوف.. إلى أن يوقظها حفيدها الصغير قبل الغروب، عندما مالت شمس جدة للاختباء في أحضان بحرها الفاتن.. اصطف ذلك المواطن بين والدته الطاعنة في السن وطفله الصغير، باتجاه البحر في الواجهة البحرية، وأمواج البحر ترسل بين الحين والآخر قطراتها المتناثرة، لتربت بلطف على أجسادهم التي غمرها الحب والامتنان، حتى كادت تفقد الإحساس بالمكان.. لتهاجر عبر الزمان الطويل، الذي يشبه موجة البحر التي تأتي من بعيد بعيد.. تحمل في شموخ أحلام رجل شامخ، شاب قرأ الماضي ودرس الحاضر، فوجد نفسه يقود شعبه للمستقبل.. عندما حل المساء احتضن مواطن سعودي بسيط، السعودية بين ذراعيه وهو يقرأ عليها أذكار المساء.