(1) لم يبالغ أولئك الذين رأوا في التغييرات المتسارعة التي تشهدها السعودية، في مختلف المجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية والعسكرية، ربيعا عربيا لا يميّزهعن الربيع الذي شهدته عدد من الدول العربية إلا أنه ربيع تقوده الدولة وتنفذه قياداتها وفق رؤية واضحة تحقق للشعب كثيرا مما كان يتطلع إليه دون أن يكون محتاجا إلىالخروج إلى الساحات العامة مطالبا بالتغيير، ودون أن يتعرض لما تعرضت له شعوب عربية دفعت أمنها واستقرارها ثمنا لمطالبتها بالتغيير. كما أنه ليس من المبالغة اعتبار ما يحدث في السعودية من إصلاحات متسارعة ضربا من القطيعة مع نمط من التفكير وأسلوب في الأداء حرصت الدولة على الأخذ به فيخططها التنموية المتتابعة التي تمت وفق آلية تعتمد الثبات والتروي وسياسة الخطوة خطوة حينا وخطوتين إلى الأمام وخطوة إلى الوراء حينا آخر معتبرةَ تلك السياسة من الخصوصيات المميزة لها، على الرغم من أنها أفضت إلى بطء التغيير والتطوير في جوانب كثيرة من التنمية خاصة تلك التي تتقاطع مع التقاليد الاجتماعية التي نزلتها العزلةالطويلة التي عاشتها الجزيرة العربية منزلة الثوابت التي لا تقبل إعادة النظر فيها. فإن لم يكن ما يحدث في السعودية نسخة خاصة بها من الربيع العربي أو قطيعة مع سياستها القائمة على التروي، فإن من المؤكد، بل والمعلن على لسان أكثر من مسؤول، أن مايحدث في السعودية ضرب من الانقلاب على أيديولوجيا أسس لها تيار ما عرف بالصحوة الذي ظل ما يزيد على ثلاثة عقود من الزمن يمسك بمفاصل المؤسسات في مختلفالمجالات على نحو أعاق كثيرا من الخطط التنموية وحدّ من قدرتها على إحداث نقلة نوعية تمكّن السعودية من ردم الفجوة الحضارية التي لا تفصل بينها وبين دول العالم الأوّلفحسب وإنما بينها وبين حواضر عربية حققت خطوات حضارية وثقافية متقدمة على الرغم من أنها لاتمتلك ما تمتلكه السعودية من إمكانات، وقد تجلت تلك الرغبة في تجاوزأيديولوجيا مرحلة الصحوة في حديث ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان خلال افتتاح مشروع مدينة نيوم حين أكد على أن السعودية سوف تعود إلى ما كانت عليه قبلسنة 1979، وأنها لن تضيع ثلاثين سنة أخرى من عمر التنمية، مهددا بتدمير كل من يحاول التصدي لهذا التوجه، في إشارة واضحة لدعاة تيار الصحوة الذين لم يكونوا يكفونعن مناوأة أي خطوة تتخذها السعودية لا تنسجم مع ما كانوا يتبنونه من فتاوى متشددة حالت دون إقرار كثير من الاصلاحات وعطلت تنفيذ كثير من الالتزامات التي صادقتعليها المملكة، وأوضح نموذج لها اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة. (2) اتسمت حركة التغيير التي تشهدها السعودية بأنها حركة شاملة مسّت كافة الجوانب الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية والعسكرية، ووضعت المملكة على عتبات مرحلةجديدة في علاقاتها الخارجية وخططها التنموية الداخلية، إلا أن الصدى الأكبر والأثر الذي لفت الانتباه إلى ما يحدث في السعودية والذي استثار قدرا كبيرا من الحوار في الداخلكما يتجلى في وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي، كما استثار كثيرا من الارتياب حول مستقبل المملكة عند عدد من المراقبين في الخارج إنما هو تلك التغييراتالمتصلة بمجال الترفيه، كافتتاح دور للسينما وإقامة حفلات للغناء واستضافة فنانين عرب وعالميين والشروع في إقامة دار للأوبرا وتأسيس فرقة للأوكسترا، إضافة إلى تلكالتغييرات المتصلة بحقوق المرأة ونموذجها حقها الذي ظل محجوبا عنها في قيادة السيارة ورعاية أطفالها وحضور مباريات كرة القدم والحفلات الفنية المختلفة. ويعود ذلك الصدى الذي لفيته قرارات التغيير في هذين المجالين، الترفيه وحقوق المرأة، إلى أنها شكلت اختراقا لما كان يعتبر محظورا وجرأة على ما كانت تؤكد عليه له بعضالفتاوى من أنه من الحرام الذي لا تنبغي مقارفته، كما أن هذه القرارات شكلت تحديا لما كانت تحذر منه بعض الآراء التي كانت ترى أن أي تغيير في هذين المجالين يعتبرارتكابا لعيب اجتماعي يمكن له أن يستثير سخط مجتمعِ ينأى بنفسه عنه ولا يقبل فرضه عليه. وكان الاحتكام إلى قانون العيب الاجتماعي هو البديل عن قانون التحريم الشرعي تلجأ إليه الجماعات المتشددة حينما لا تكون فتاواها بالتحريم قادرة على اقناع المجتمع، ونموذجذلك ما حدث من انزلاق عن فنوى تحريم قيادة المرأة للسيارة إلى معيار العيب الاجتماعي للاستمرار، ولهذا درج بعض المسؤولين والدعاة إلى أن القول بأن المجتمع ليسمستعدا للقبول بقيادة المرأة للسيارة، وقد كان هذا الانزلاق من التحريم الديني للعيب الاجتماعي أنموذج لمحرمات تم تلبيس المجتمع بها وإدعاء رفضه لها، وقد دأبت أصواتمتشددة، وأصوات تخشى عنت وشغب تلك الأصوات المتشددة، على القول بالرفض الاجتماعي لتبرير منع قيادة المرأة للسيارة وإقامة دور للسيينما وإحياء حفلات للغناء وذلكبالحديث بالنيابة عن المجتمع تحت شعارات تتحدث عن الخصوصية والهوية وفرادة الموقع كأرض للحرمين الشريفين، وتمكنت تلك الأصوات المتشددة، بما كانت تزيفه منصورة نمطية عن المجتمع السعودي، من تعطيل كثير من القرارات تحت قانون العيب الاجتماعي بعد أن كانت قد عطلت من قبل قرارات مشابهة تحت أحكام التحريم الديني. (3) من هنا يكون بإمكاننا أن نذهب إلى أن التقدير الحقيقي لحجم وقيمة ما تشهده السعودية من تغييرات على المستوى الداخلي، يجري طرحها تحت مسمى إصلاحات، لا يتحققبالنظر إلى ما تتضمنه من تحديث وتطوير لكثير من الأنظمة والقوانين رغم تنوعها، ولا بالنظر إلى ما تؤسس له من مشاريع تنموية وترفيهية رغم حجم ما يتم إنفاقه عليها، وإنماهو تقدير لما تتسم به تلك الأنظمة والقوانين من شجاعة في مواجهة فتاوى المنع والتحريم التي تستمد من المؤسسة الدينية قوتَها وتستمد من دعاة الصحوة والشارع الدينيالمتشدد عنفَها، التقدير الحقيقي لتلك التغييرات المادية والمعنوية لا يتحقق إلا بالنظر إليها على أنها إعلان لخروج الدولة عن سلطة وسطوة التفكير المتشدد الذي حول "الدين"إلى "أيديولوجيا" لا تستحكم في الحياة العامة للناس فحسب وإنما تشكّل حدود وملامح السياسة الداخلية للدولة وما يصدر عنها من نظم وما تحتكم إليه من قوانين، وذلك على نحوأوشكت فيه الدولة، خلال العقود الأخيرة التي سبقت هذه التغييرات، أن تصبح جهازا تنفيذيا لفتاوى علماء المؤسسة الدينية تارة ومواقف دعاة الشارع المتشدد تارة أخرى، ولهذابمكن النظر إلى الإصلاحات الأخيرة باعتبارها تكريسا لمفهوم الدولة المدنية وسيادة النظام في مواجهة الدولة الدينية وسلطة الفتوى وخطاب الدعاة. وليس الاعتداد بتلك القرارات والنظر إليها على أنها ضرب من الشجاعة ناتجا عن مواجهتها لقوة وعنفوان الشارع المتشدد فحسب، وإنما هو لحسمها للعلاقة المعقدة بينالمؤسستين الدينية والمدنية في السعودية، وهي علاقة تاريخية معقدة لم يستطع التوافق بينهما أن يحول دون ظهور خلافات كشفت عنها بعض الفتاوى التي تتعارض مع بعضالمشاريع والقرارات قبل أن تكشف عنها المواجهات الصعبة التي قادتها الدولة لفرض إرادتها وخياراتها في مواجهة تعنت المؤسسة الدينية وتمرد الشارع المتشدد. وقد يبدو للوهلة الأولى أن السعودية تقود معركة تواجه فيها تاريخها الذي تأسست عليه الدولة السعودية الأولى أواسط القرن الثامن عشر بموجب عهد ووعد بين الأمير محمد بنسعود ممثلا للسلطة السياسية والشيخ محمد بن عبد الوهاب ممثلا للسلطة الدينية وكرست الدولتان الثانية والثالثة شرعيتهما من خلال الحفاظ على هذا العهد، إلا إن من يقرأتاريخ الحركات المناهضة للدولة السعودية الثالثة التي تأسست على يد الملك عبد العزيز يدرك أن السعودية اليوم تقود حربا ضد خصومها التقليديين وتحسم تحديا في التوفيق بينخطوط التماس والإلتباس بين البعدين الديني والمدني للدولة. وإذا كانت المؤسسة الدينية، ممثلة في هيئة الإفتاء وهيئة كبار العلماء، بقيت محافظة، إلى حد كبير، على ولائها للدولة وتفهمها ومبادرتها إلى تأييد ما تقوم به تغيير وما تتخذه منقرارات، فإن بعض الجماعات المتطرفة في سلفيتها ومحافظتها والتي لا تمتلك من الرؤية السياسية ما يمكنها من استيعاب ما يبدو خروجا على ما ينص عليه الإتجاه السلفي لمتجد ضيرا في إعلان رفضها لما تتخذه الدولة من قرارات وتجاوز ذلك إلى رفض ما تفتي به المؤسسة الدينية من فتاوى، وقد أدى إلى تكريس معارضة الشارع الديني وتوسيعدائرته اعتماد هذه الجماعات المتطرفة على فتاوى بديلة لفتاوى المؤسسة الدينية الرسمية يستمدها دعاة ومفتون يبرزون من بينهم ويستندون إلى نفس المرجعية السلفية بعد فصلنصوصها عن سياقاتها التاريخية، ولم تتوقف فتاوى الشارع الديني عند حدود رفض بعض قرارات الدولة وإنما ترجمت هذا الرفض في أحيان كثيرة إلى تمرد لم تجد الدولة بدامن قمعه بالقوة معتمدة في مواجهتها للجماعات الدينية المتطرفة على فتاوى دينية صادرة من المؤسسة الدينية الرسمية، وذلك ما حدث حين حرصت الدولة قبل تحرك أجهزتهاالعسكرية والأمنية على استصدار فتوى بجواز مواجهة حركة جهيمان حين اتخذ من الحرم المكي قاعدة له وأعلن من مكبرات الصوت فيه عصيانه وخروجه عن الطاعة. ومن هنا يبدو اللبس والتداخل جليا، وهو لبس تظل فيه المرجعية الدينية هي المرجع المعتمد في الموالاة ونفس المرجع المعتمد في المعارضة، وإذا كانت الجماعات المتطرفةتنطلق من أساس ديني في معارضتها فإن مواجهتها تعتمد على أساس ديني كذلك، على نحو يمكن معه اعتبار كثير مما يحدث في السعودية حرب فتاوى لا تنتمي إلى الإسلامفحسب بل تنتمي إلى السلفية كذلك. (4) ومما يؤكد ما تتسم به حركة التغيير التي تحدث في السعودية من شجاعة أنها تتم بوتيرة متسارعة وبصورة شاملة دون تخوف من تكرار التجارب السابقة في الاصطدام بالشارعالديني الذي حركته من قبل تغييرات أقل تماسا مع ما يمكن أن يثير حفيظة المتشددين، كما أنها تغييرات تتم في ظرف تاريخي يشهد تصاعدا للتيارات الدينية المتشددة وتشهد فيهالمملكة تحديات خارجية كان يمكن للانشغال بها أن يؤجل أي عملية إصلاح داخلي وتجنب أي تغيير يمكن أن يفضى إلى التوتر والاصطدام بالشارع الديني. ولعل المعارك التي قادها الملك المؤسس عبد العزيز ضد الجماعات الدينية التي انشقت عليه لم تكن أقل شراسة من تلك التي قادها لتوحيد المملكة، وكانت الإصلاحات التي بدأالملك عبد العزيز الأخذ بها لتأسيس دولة حديثة هي السبب في تمرد تلك الجماعات التي كانت تدين له بالولاء وتقاتل إلى جنبه في معارك التوحيد، فقد كان مم أنكروه عليه أنيبعث بابنه فيصل إلى بريطانيا، والتي يعتبرونها بلد كفار لا يجوز التعامل معهم والسفر إليهم، كما أنكروا عليه أن يتم تزويد الجيش وإدارات الحكومة بالمبرقات وهي أدوات منصنع الكفار لايجوز للمسلمين استخدامها، أما ثالث ما أنكروه على الملك عبد العزيز فهو قبوله بإقامة حدود بينه وبين العراق والتي يرونها أرضا للجهاد لا يجوز لأحد أن يحولبينهم وبين نشر الأسلام الصحيح فيها. تزامنت معركة الملك عبد العزيز مع الجماعات الدينية المتطرفة التي انشقت عليه مع معارك توحيده للمملكة، وهو ما صرف النظر عنها باعتبارها إنشقاقا ذا مرجعية دينية إلىاعتباره جزء من عملية تذويب القبائل في إطار الدولة وتوحيد المملكة، ومكّن انتصارالملك عبد العزيز على هذه الجماعات المتطرفة في معركة "السبلة" من المضي قدما فيوضع الأسس لدولة مدنية حديثة ذات مرجعية دينية ترتبط بمؤسسة دينية رسمية تمنحها الدولة صلاحياتها في الوقت الذي تستمد شرعيتها منها في إطار توازن كان الحفاظ عليهأحد عوامل الاستقرار في المملكة، كما كان مرتكزا للقوة في مواجهة موجات المد القومي والاشتراكي في خمسينيات وستينيات القرن الميلادي الماضي، وعلى نحو أدق خلالفترة حكم الملك فيصل، ولم تكن تواجه التيارات القومية والإشتراكية تتم باعتبارها اتجاهات سياسية بقدر ما كان ينظر إليها على أنها حركات أيديولوجية تستهدف الإسلاموتسعى إلى تقويض الدولة الممثلة له والحامية لمقدساته، وكانت حركة التضامن الإسلامي التي قادها الملك فيصل بديلا للحركات القومية واليسارية التي كانت تشكل الخطابالسياسي لكثير من العواصم العربية في تلك المرحلة. أفضى التحصّن بالمرجعية الدينية في مواجهة التيارات القومية والاشتراكية إلى تنامي المد الديني ومن ثمّ انفلاته خارج المؤسسة الدينية الرسمية، كما كانت سياسة التسامح التياعتمدتها الدولة معه فرصة تاريخية لتنامي قوة المد الديني وتمكنه من تحقيق أعنف ضربة تعرضت لها المملكة منذ تأسيس الدولة السعودية الثالثة وذلك حين تمكّن جهيمان فياليوم الأول من سنة 1400 هجرية من احتلال الحرم المكي والتحصن فيه وإعلان خروجه على الدولة معللا ذلك بما أنكر على الدولة من خروج عن الاتجاه الإسلامي وقواعدالشرع التي تأسست عليها، وكما كانت الإصلاحات التي اعتمدها الملك عبد العزيز علة في خروج الجماعات الدينية المتطرفة عليه، فقد كانت سياسة الانفتاح التي شهدتهاالمملكة في عهد الملك خالد والطفرة الاقتصادية التي غيرت كثيرا في القيم الاجتماعية علة في تمرد جهيمان وإعلانه العصيان وتحصنه في الحرم المكي بما في ذلك من دلالة لمتكن تخلو من رمزية البعد الديني في حركته والتي كان يقدمها باعتبارها عودة إلى الأسلام الصحيح وانتصارا لمبادئه. كانت حركة جهيمان درسا صعبا تعرضت له الدولة، وعلى الرغم من تمكنها من قمع تلك الحركة والقضاء على زعاماتها إلا أنها وجدت نفسها مضطرة إلى إعادة النظر في كثيرمن المسائل التي رأت أنها استثارت غضب تلك الجماعة المتطرفة فتراجعت عن كثير مما كانت قد أخذت به من قبل على نحو جاز معه القول بأن جهيمان حقق انتصارا منقبره لقضيته التي قاد التمرد من أجلها. دخلت المملكة، في أعقاب حركة جهيمان، مرحلة انغلاق مثلت حاضنة لفكر متشدد شاركت في صياغته اتجاهات سلفية متشددة وعناصر من قيادات الإخوان المسلمين الذيناحتضنتهم المملكة واستضافتهم حين كانوا يبحثون عن ملاذ آمن بعد افتضاح مخططاتهم في مصر وسوريا، وقد تمكنت تلك القيادات الإخوانية من الإمساك بمفاصل التعليم العاموالجامعي وتخرج على أيديهم عشرات الدعاة والوعاظ الذين قادوا تيار ما عرف بالصحوة التي جمعت بين تشدد الفكر السلفي وحركية جماعة الإخوان، ومنحت الحرب فيإفغانستان تلك الجماعات فرصة لتدريب كوادرها تحت مسمى الجهاد، والذي لم يلبث أن تحوّل إلى عمليات إرهابية قاد بداياتها بعض العائدين من إفغانستان، وتشكلت من خلالهالجماعات الإرهابية التي تتخذ من إفغانستان قاعدة لها وتعتمد على من أعدهم دعاة الصجوة وحرضوهم على الخروج مخزونا بشريا لتنفيد مخططاتهم التي كانت تستهدف ضربالاستقرار في المملكة وتنفيذ ما كانت تعتبره أجندة تلك الجماعات "إدارة للتوحش" وتعني بها الفوضى الشاملة التي تسبق إعلان الدولة الإسلامية التي كانوا يخططون لإقامتهاعلى أنقاض الدول المدنية الحديثة في المنطقة وعلى رأسها السعودية. وعلى الرغم من تمكّن الأجهزة الأمنية من القضاء على الأذرع العسكرية لتلك الجماعات المتطرفة إلا أن التطرف، كفكر، ظل قويا متماسكا وقادرا على التأثير في صناعةالقرار وخاصة ما يتعلق بخطط التنمية في الداخل، وظلت الدولة تنتهج سياسة الحذر في اتخاذ أي خطوة يمكن لها أن تستثير ما كانت تلوح به الصحوة من رفض الشارعالسعودي لأي تغيير، وظل شبح حركة جهيمان هو المفسر الوحيد لغياب قرارات تتصل بتحديث الأنظمة ومنح الحقوق وتوثيق الصلة بالعالم الخارجي. (5) في هذا السياق التاريخي يمكن لنا التأكيد على أن القيمة الحقيقية للتغييرات الأخيرة التي شهدتها السعودية، وهي التغييرات التي كانت موضع دهشة المتابعين في الداخل واهتمامالمراقبين في الخارج، أنها جاءت انتصارا لقيم الدولة المدنية في مواجهة ما كانت تسعى نحوه الجماعات المتشددة، سواء كانت سلفية أو منتمية لجماعة الإخوان المسلمين، منتكريس مفهوم الدولة الدينية، التغييرات الأخيرة في جوهرها مواجهة لما اسست له الصحوة من محافظة بالغت في تكريسها فلم تعد تطرحها باعتبارها هدفا تعمل على تحقيقه، بلباعتبارها خصوصية سعودية يحرص المجتمع السعودي نفسه على المحافظة عليها، التغييرات الأخيرة في جوهرها تصحيح لصورة نمطية تم رسم معالمها طوال عقود ثلاثةهيمنت فيها على الحياة العامة كما فرضت سطوتها على أصحاب القرار كذلك، لم تكن القرارات الجريئة التي تم اتخاذها، وخاصة ما يتعلق بحقوق المرأة وحق المواطنين فيالترفيه مجرد جزء من التنمية بقدر ما كانت حركة تهدف إلى أعادة وضع السعودية على قطار التحول مرة أخرى بعد أن اضاعت ثلاثين عاما من عمر المواطنين الذين أعاقتالصحوة كثيرا من استحقاقاتهم التي كانوا يرون أن الشعوب المختلفة من حولهم،سواء كانت عربية أو إسلامية، تتمتع بها. وإذا كانت الجماعات المتشددة ودعاة الصحوة وخطباؤها قد راهنوا على الصورة النمطية المختلقة للمجتمع السعودي وكرسوها كفزاعة للتصدي لاي محاولة اختراقلمخططاتهم، فإن الرهان الذي اعتمده اصحاب القرار في التغييرات الأخيرة إنما هو الصورة الحقيقية للمجتمع نفسه، تلك الصورة التي تتناقض مع ما كانت تكرسه الصحوةويؤكد عليه دعاتها، وذلك ما اتضح حين تجلّى حجم الابتهاج الشعبي والترحيب الذي كشفت عنه مواقع التواصل الاجتماعي بكل قرار اتخذته الدولة وخاصة تلك المتعلقة بحقوقالمرأة وحق المواطنين في الترفيه مما مهد للمضي قدما في اتخاذ مزيد من القرارات المماثلة. ولم يكن صعبا على اصحاب القرار الرهان على الصورة الحقيقية للشعب السعودي، والتي كانت كثير من المؤشرات تدل عليها، كما تدل على زيف الصورة النمطية التي ظلتالجماعات المتطرفة تلوح بها، ذلك أن الشعب الذي كشفت الإحصائيات عن أنه من أكثر الشعوب استثمارا لوسائط التواصل واستخداما لوسائل التقنية واستكشافا للمواقع علىشبكة الإنترنت لا يمكن له أن يكون شعبا تهيمن عليه الرغبة في العيش بعزلة عن العالم ويسيطر عليه الخوف على هويته كما كان يروج دعاة الصحوة، كما أن الشعب الذي لايفوّت فرصة للسفر إلى الخارج أفرادا وجماعات لا يمكن له أن يكون شعبا مصدقا لما كان يفتي به دعاة التشدد من تحريم السفر إلى "بلاد الكفار"، كما كشفت العواصم العربيةوغير العربية التي يرتادها السائح السعودي عن وجه آخر للحياة العامة للمجتمع يختلف عن ذلك الوجه المحافظ الذي كان الذراع التنفيذي للصحوة، والمتمثل في رجال هيئةالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يحمل المجتمع على الأخذ به، بل إن ما كانت توفره مدينة جدة على شاطئها من مطاعم ومقاه وما كانت توفره أسواقها التجارية من منتجاتعالمية كان كفيلا بالكشف عن هشاشة المحافظة التي تبدو عليه بعض المدن والأرياف فهي محافظة لا تلبث أن تتساقط أوراقها أمام ما تفرضه جدة من نمط مختلف في الحياةعلى نحو جعل جدة مثارا لسخط الجماعات المتطرفة ودعاتها الذين أكدوا أن ما أصاب جدة من آثار السيول قبل بضع سنوات إنما هو نتيجة لما يرتكبه الناس فيها من ذنوبوآثام. كانت تلك مؤشرات دالة على أن الحياة العامة في المجتمع السعودي تسير وفق مستويين متناقضين، مستوى محافظ ينسجم مع ما كانت تدعو إليه الصحوة ومستوى منفتح يتطلعأن يحيا كما تحيا بقية شعوب العالم سواء فيما تحصل عليه من حقوق أوما تقدمه لها دولها من مشاريع، وإذا كان تيار الصحوة بقي يراهن على المستوى المحافظ المعلن فيإعاقة أي مشاريع تهدف إلى تعزيز علاقة المجتمع السعودي بالعالم وتوثيق صلته بالتطور الحضاري الذي تشهده البلدان المختلفة من حوله فإن رهان الدولة في قراراتها إنماكان على المستوى المنفتح والمقموع في المجتمع. (5) كان برنامج الابتعاث الذي انطلق في عهد الملك عبد الله فرصة جيدة لاختبار حقيقة المجتمع السسعودي التي يمكن الرهان عليها، كما كان هذا البرنامج، الذي أتاح فرصةالابتعاث للذكور والإناث من مختلف مناطق المملكة، سبرا عميقا لأغوار المجتمع ومعرفة الاتجاهات العامة فيه واكتشاف مدى التأثير الحقيقي لفتاوى التطرف التي ظلت تؤكدعلى تحريم السفر إلى الخارج وعدم جواز تلقي العلم في بلاد الكفار، وهي نفس الفتاوي التي أدت إلى تقليص ابتعاث الدولة للطلاب والاقتصار على ما كان يسمى بالتخصصاتالنادرة في الفترة التي تلت حركة جهيمان. كان الإقبال غير المتوقع من كافة فئات المجتمع ومختلف مناطق المملكة على برنامج الابتعاث شهادة واضحة على وهم ما كان يدعو إليه وعاظ الصحوة من انغلاق حرصا علىالهوية وحفاظا على الدين وما يدعيه خطباء الصحوة من محافظة المجتمع السعودي، ولم يكن ذلك الإقبال الذي مكّن برنامج الابتعاث من إلحاق مئات الآلاف من الطلبة والطالباتبما يزيد على المائة جامعة في مختلف القارات، لم يكن ذلك الإقبال معبرا عن رغبة الجيل الجديد في التواصل مع العالم والخروج من الدائرة الضيقة التي كانت تحاصره فيهاالصحوة، وإنما كان معبرا عن رغبة جيل الآباء والأمهات في أتاحة الفرصة لأبنائهم وبناتهم لتلقي العلم في أرقى الجامعات وكاشفا عن أن فتاوى الصحوة لم تحل بين هؤلاءالآباء والأمهات وبين تحقيق ما يطمحون إليه. كشف برنامج الابتعاث، خلال السنوات التي أعقبت إقراره، عن تبلور كتلة تاريخية يمكن التعويل عليها في تقبل حركة التغيير تمثلت في مئات الآلاف من الطلبة الذين تم ابتعاثهمإلى أكثر من مائة جامعة عالمية ضمت 56 جامعة إمريكية و9 جامعات بريطانية و5 جامعات فرنسية إضافة إلى جامعات أخرى في هولندا وسويسرا وألمانيا وكندا والسويدوالنمارك وبلجيكا والنرويج وفنلندا وروسيا واليابان وأستراليا ومما يعزز قوة تلك الكتلة التاريخية أنها تنتمي لجيل من الآباء والأمهات الذين لم تفسد عقولهم ونفوسهم فتاوى الصحوة، وكانت موافقتهم على البرنامج إعلانا لموقف صريحعبروا فيه عن رفضهم لحالة الانغلاق التي وجدوا أنفسهم أسرى لها طوال عقود ثلاثة استحكمت فيها الصحوة في كافة المرافق، ولم تكن العواصم العالمية المختلفة حاضنةللطالبات والطلاب المبتعثين فحسب بل لأسرهم التي كانت ترافقهم خلال فترة الابتعاث متمتعة بكافة المزايا التي يتيحها برنامج الابتعاث للطلبة والطلبة. كان خروج موجات من الشباب المبتعثين من كافة مناطق المملكة وجميع فئات المجتمع أشبه ما يكون بهجرات جماعية لا توفر فرصا للتعليم في الخارج فحسب وإنما توفرملاذات آمنة، وإن كانت مؤقتة، لممارسة الحياة الطبيعية بعيدا عن تلك الحدود الضيقة التي تفرضها فتاوى المتشددين وتحرص على تنفيذها هيئات الأمر بالمعروف والنهي عنالمنكر، والتي كشفت الصدامات معها في السنوات الأخيرة عن تبرم شعبي بممارساتها مما اضطر الدولة إلى تقليص صلاحياتها والحد من نفوذها، كان تقليص صلاحيات الهيئةانتصارا للمواطنين في مواجهة شراسة الشارع الديني، واستجابة لما كانوا يتطلعون إليه ويعبرون عنه في مختلف وسائط التواصل الاجتماعي، ولم يكن التبرم الذي ظهر واضحاتجاه هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير الجزء المعلن من التبرم بحالة الحرمان من أدنى الحقوق الخاصة في ممارسة الحياة الطبيعية، حالة الحرمان التي يعاني منهاشعب لم يعد يجهل كيف تعيش الشعوب من حوله ولم يعد يقدر على مواجهتها بالصبر والإذعان، وتكشفت المسائل عما هو أخطر من ذلك حين كاد التشدد الديني أن يؤدي إلىنقيضه، وأن تتسبب المعاناة في الخلط بين الدين نفسه ومن يدعون تمثيله من دعاة الصحوة، وبات مما يتردد الحديث عنه بروز أسماء لا تجد ضيرا أن تجاهر بإلحادها تحتأسماء مستعارة حينا وباسمائها الصريحة حينا آخر. وأخيرا فإن تلك القرارات التي شكلت اختراقا واضحا للصورة النمطية للملكة وخروجا عن وصايا زمن الصحوة لم تكن تستمد قوتها من اتكائها على الرغبة الحقيقية لتلك الكتلةالتاريخية ورغبتها في التغيير فحسب، بل كانت تستمد شرعيتها من أنها تأتي استجابة لتطلعات تلك الكتلة، خاصة أن تلك القرارات جاءت مصاحبة لبروز قيادات شابة تجمع بينالشجاعة في اتخاذ القراروالبحث عن شرعية المنجز والمعرفة بتطلعات المجتمع السعودي الذي يشكل جيل الشباب الغالبية من سكانه.ٍ