كيف ظهر جهيمان؟ ولم قام ومجموعته بتلك المغامرة الكارثية المتمثلة في اقتحام الحرم المكي قبل 35 عاماً؟ يشكل كتاب ناصر الحزيمي «أيام مع جهيمان: كنت مع الجماعة السلفية المحتسبة» وثيقة تاريخية من داخل الجماعة، فالمؤلف عرف جهيمان عن كثب ورافقه في بعض رحلاته، واعتنق فكر الجماعة فترة من حياته. ومما يُحسب للحزيمي أنه لم يجنح إلى إدانة الذات أو شيطنة تاريخه الشخصي، في سبيل مزيد من «التطهر»، كمصيدة يقع فيها البعض حين يغتسلون بالكتابة من خطايا الماضي. يركز الحزيمي في تشكيل شخصية وفكر جهيمان، وفي تموضع الأحداث التي انتهت بتلك الواقعة الدراماتيكية التي هزت العالم الإسلامي، على مسألتين: الأولى الثأر من هزيمة الإخوان في وقعة «السبلة» أمام المؤسس رحمه الله. والثانية الرؤية الخلاصية القائمة على نهاية العالم. وبذلك فهو يُماهي في مقاربته بين ضدين أو متناقضين يقللان من تماسك منطقه التحليلي: الثأر كفكرة دنيوية بحتة، والخلاص كفكرة ماورائية متعالية! بالنسبة إلى الثأر القبلي أرى بأنه يأخذ منحى تبسيطياً يعزل الحدث عن سياقه، ولا يستند إلى تأطير علمي مقبول، من ذلك الذي يفسر الحوادث الكبرى في مسيرة مجتمع ما. ويدهشني كثيراً أن باحثاً مثل عبدالعزيز الخضر الذي قدّم للكتاب، أخذ الكلام عن الثأر القبلي وفكرة الخلاص حقائق نهائية لا تقبل النقاش أو المساءلة! وفي خضم ثناء الخضر على الكتاب وهو ثناء مستحق، لم يقدم - أي الخضر - أي تساؤلات مفتوحة، يمكن أن تمهد الطريق لمقاربات أخرى، مكتفياً بالتشديد على أننا أمام المادة الخام للقصة من خلال المعايشة الشخصية لمؤلفها. وكأني بالخضر وقع تحت التأثير النفسي للوثوقية العالية التي تحدث بها المؤلف نفسه، بخاصة في الحوارات الملحقة بالكتاب، التي نفى فيها صحة أي تفسير آخر بخلاف تفسيره. صحيح أن معرفة الحزيمي الشخصية لجهيمان وفرت له حرارة في السرد، وإنسانية في الاستحضار، وتكثيفاً للحظة في زمانها ومكانها، لكن التحليل له أدواته التي ليس من بينها بالضرورة معايشة الحدث أو المشاركة في صناعته. إن فرضية الضغينة الناشئة في نفس جهيمان من مقتل ابن بجاد والتقاعس عن الأخذ بثأره تبدو هشة باستقراء الدافعية النفسية للإنسان، فوالد جهيمان وجده بحسب الحزيمي نفسه، ماتا ميتة طبيعية ولم يقتلا في «السبلة». وقول الحزيمي إن جهيمان كان كثيراً ما يُصرّح بما في نفسه من مقتل ابن بجاد، لا ينبغي أن يجعلنا ننسى بأن المهم في الصيرورات الكبرى ليس ما يجري في المجالس أو على اللسان، بل المكبوت المتفاعل بديناميكية في العمق. بالتالي فإن القراءة التي أزعم منطقيتها، هي أن الرغبة في الثأر لهزيمة «السبلة» مجرد مكون نفسي واحد ضمن حزمة من المكونات ذات الطبائع المختلفة التي ارتبطت في ما بينها. بمعنى أن هناك تفاعلاً ديناميكياً بين الداخل والخارج، أتصور أنه نشأ بين أبعاد ثلاثة: بين هجرة «ساجر» بمحدداتها التاريخية الجغرافية الاجتماعية، وبين الآيديولوجية المتطرفة التي انهزمت عسكرياً في وقعة «السبلة» لكنها نجحت في تمرير نفسها إلى جيل الأبناء بالتنشئة والتقاليد الأسرية، وبين هيكلية الدولة أو نظمها الإدارية والسياسية في ذلك الوقت. الحزيمي يعتبر حركة جهيمان حركة احتجاج ملحمي، وغيره قد يراها حركة عقائدية أو دينية، لكنني شخصياً أميل إلى اعتبارها حركة اجتماعية متطرفة. والحركة الاجتماعية أكثر اتساعاً من الدينية، باعتبار كل حركة اجتماعية لها عقيدة تلعب دوراً رئيساً في تشكيل الحركة، وتشمل كما أشار بلومر وتشارلز تلي نقداً عقائدياً للبناء الاجتماعي، وتبريرات عقائدية لدعم أهداف الحركة، ومعتقدات لدعم العمليات الميدانية، إضافة إلى الأساطير العقائدية. ومثل سائر الحركات الاجتماعية المتطرفة قامت حركة جهيمان على السخط على الأنساق القائمة، وهدفت إلى إحداث تغيير اجتماعي راديكالي باستخدام القوة والعنف. وفي ما يتعلق بالرؤية الخلاصية وحضور الرؤى والأحلام لدى الجماعة وظنها بأنها كانت في آخر الزمان، فإن ذلك عرضه الحزيمي كجزء من فكر الجماعة قاد مع الروح الثأرية إلى صناعة الحدث. لكن السؤال لماذا حضرت هذه الرؤية الخلاصية أصلاً؟ وهل كانت جزءاً أصيلاً من فكر الجماعة قادها إلى اقتحام الحرم كسيناريو لنهاية التاريخ، كما يرى الحزيمي ويوافقه الخضر بلا أدنى مساءلة؟ أظن بأن هذه الرؤية الخلاصية لدى الجماعة لم تكن أكثر من أسطورة من تلك الأساطير الحركية التي أشار إليها بلومر. ومن وجهة نظري، وبتوظيف للقراءة النفس ثقافية، فهذه الرؤية الخلاصية لم تكن سوى «ميكانزم» أو حيلة دفاع جماعية لمواجهة التغير الثقافي الذي بدأ يعصف بالمملكة منذ منتصف الستينات، بخاصة والقائد الخارج من بيئة معيشية متقشفة يرى مع جماعته من مظاهر المدنية الحديثة ما يمكن تفسيره وقبوله موقتاً أو إلى حين، في ضوء أشراط الساعة. لا يجب أن ننسى أن رفض التحديث كان مكوناً معرفياً في فكر جهيمان، كما كان في فكر الذين خاضوا وقعة «السبلة». بل إن الرفض صار أكثر اندفاعاً في عقول الأبناء لأن التحديث لم يعد تقنياً فحسب، بل بدأ يتصاعد في نسيج النظامين السياسي والاجتماعي. منذ مطلع السبعينات بدأ يشتد التغير الثقافي الذي كان يدفع المملكة قُدماً نحو الحداثة، مع ارتفاع أسعار النفط وصعود الطبقة الوسطى وتبدل أنماط المعيشة. هذا التغير الثقافي يمكن رصد بداياته منذ منتصف الستينات، وهو تاريخ بدء البث التلفزيوني في المملكة، إذ يشكل التلفزيون أحد العوامل القوية في نظرية التغير الثقافي، وكان محتوى التلفزيون السعودي كما هو معلوم حداثياً منذ افتتاحه حتى حادثة الحرم التي قلبته رأساً على عقب. السؤال الأخير: هل التغير الثقافي في مجتمع شديد المحافظة مع غياب آلية للتجديد الديني وإعادة المواءمة الاجتماعية وسد الفجوة بين التقني والمعرفي، معضلة كررت نفسها منذ وقعة «السبلة» حتى حادثة الحرم، وصولاً إلى انتشار الفكر المتطرف وما صاحبه من تصاعد بعض الحوادث الإرهابية في الأعوام الأخيرة؟ * أكاديمية سعودية وعضو مجلس الشورى. [email protected] LatifahAshaalan@