معظم المجتمعات البشريّة الحديثة ترتقي وتنمو عبر الاستفادة مِن عقول مَن يعيشون على أرضها تمامًا كما ترتقي بعقول مواطنيها الأصليين، ولا يمكنها الاستعانة بالعقول الوافدة إلا عندما توفر حالة اندماج بينهم وبين المجتمع بمختلف شرائحه، ما يتطلب وعيًا ليس على مستوى صناعة القرار فحسب، وإنما على المستوى الشعبي كذلك. من الضروري أن تتغير النظرة التي تعتقد بأن الوافد أتى إلى بلد ما لنهب ثرواته وخيراته، ولا بد من التوقّف عن تخيل الوافدين على أنهم كذلك، هم يتحملون مرارة الاغتراب عن أرضهم وأهلهم بحثًا عن الرزق بمجهودهم، لذلك يستحقون الاحترام نظير تضحيتهم وبحثهم عن حياة كريمة تليق بهم وبأسرهم. الأولويّة دون شك هي للمواطن في كل الحالات، ولكن ثمة عقول وافدة تحمل الفكر والإبداع وقادرة على الإنتاج والاختراع ومن شأنها أن تضيف قيمة للمجتمع الذي تعيش فيه أي أن المقصود ليس كل الوافدين، وإنما تلك الشريحة منهم التي تملك قدرات إبداعية نوعية. لنأخذ أمريكا على سبيل المثال، فإنها برزت في علوم شتى وتسيّدت مجالات متعددة علمية وتكنولوجية وإنسانية بفضل العقول الوافدة التي أحسنت استقبالها ودمجها داخل المجتمع الأمريكي وتهيئة المناخ الصحي لترغيبها في إبراز أفضل ما لديها، وأصبحت محطّة رئيسية للعقول المهاجرة على مستوى العالم. نحن في زمن سباق شرس بين الدول للارتقاء بمستوى الابتكار العلمي والتكنولوجي والصناعات التقنية في مختلف القطاعات، وعادة ما تتجه الدول في هذا الصعيد إلى نهجين رئيسيين، الأول يتمثل في الحفاظ على عقول مواطنيها من الاتجاه إلى دول أخرى، والثاني يبرز في توفير الأرضية المناسبة لتحفيز العقول المهاجرة على اختيار العيش فيها. وقد تواجه بعض الدول معوقات يصعب تجاوزها ما لم يتعاضد المجتمع بأكمله إلى جانب حكومته لحل الأزمة الراهنة، ومنها عدم تقبّل بعض المجتمعات للوافدين أو التعامل معهم بنوع من الجفاء كمحاولة لدفعهم نحو العودة إلى أوطانهم، وهذه السلوكيّات تُعد غير مسؤولة ولا تخدم المصالح الوطنية، وتفرض جهودًا أكبر على المؤسسات التعليمية والاجتماعية لغرس مبادئ قبول الثقافات الأخرى والتعايش والتسامح مع جميع البشر مهما كانت دياناتهم ومرجعياتهم أو ألوانهم ولغاتهم. المملكة وضعت ضمن إطار رؤيتها الطموحة استقطاب الكفاءات الدوليّة كأحد حلول الارتقاء بجودة الحياة من جانب اجتماعي، والنمو في الإنتاج والابتكار من جانب اقتصادي ومعرفي، والحق أننا نمتلك مقومات احتضان تلك الكوادر ذات العقول الاستثنائيّة، وبإمكاننا تجاوز بعض العقبات التنظيمية بإصدار نظام «البطاقة الخضراء» كما في الولاياتالمتحدةالأمريكية التي تمنح الوافد النوعي حق الإقامة الدائمة ولمدة 10 سنوات قابلة للتجديد في حال أثبت كفاءته ودوره الفاعل داخل المجتمع. المجتمع السعودي ودود ويمتلك خصال الضيافة والكرم والجود، لذا سيتأقلم سريعًا مع كون مجتمعه منفتحًا على الآخر، قد يستغرق الأمر مدة من الزمن، ولكنه قادر على التعايش مع الثقافات المغايرة متى ما وُجدت القوانين والأنظمة الضابطة لاستقطاب العقول الوافدة، لذا فإننا جاهزون حقًا لهذه الخطوة المتماشية مع رغبتنا في التطوير والنمو في سائر الميادين الحضارية. نقلا عن الجزيرة