يبدو أن عالمنا العربي المفكك لم يسلم من ''المذهبية'' التي طالت حتى الإدارة. فهناك ''مذاهب'' (مدارس) تدعو إلى التيسير على الموظفين، ومنحهم الثقة، ومعاملتهم بالحسنى، وهناك ''مذاهب'' تشكك في جدوى الوثوق بهم، وتدعو إلى كتم أنفاسهم، وتشديد الرقابة عليهم! هناك أيضا مدارس ترى أن يتم ''التعيين'' على أساس الأقدمية (المدرسة الإدارية المحافظة)، أي اعتمادا على مقدار الفترة الزمنية التي قضاها المرشح في خدمة الإدارة (القسم) أو المؤسسة، بينما نجد أن مدارس أخرى (كالمدرسة الإدارية المتحررة) ترى أن يتم التعيين على أساس كفاءة المرشح (تمتعه بالمعرفة والجدارات اللازمة) بصرف النظر عن مدة خدمته التي يعتبرونها مجرد ''سنة روتينية'' مكررة بعدد سنوات الخدمة! المدرسة الإدارية المحافظة تخشى المخاطر لأنها تتمسك بالتقاليد الإدارية السائدة ولا ترغب في الابتكار أو تجربة الجديد الذي قد يكشف عيوبها أو يسحب صلاحياتها أو يترتب عليه رفض من المجتمع أو مقاومة من تيارات داخل المؤسسة، ومن هذا المنطلق تميل إلى ترشيح ''تقليديين'' من أصحاب المدد الزمنية الطويلة لتولي المناصب، قناعة منها بأن المرشحين ذوي الأقدمية هم الأدرى أكثر من زملائهم بسير العمل داخل المؤسسة وطبيعة إجراءاتها (المعرفة بالإجراءات). بل إن أنصار هذه المدرسة يربطون بين ''الخبرة'' و''العمر'' ، وهو ربط لا أساس له من الصحة، فقد ينحازون إلى مرشح عمره مثلا 50 عاما على حساب مرشح آخر عمره 40 عاما اعتقادا منهم أن الأول أكثر خبرة من الثاني، رغم أنهما قد يتساويان في الخبرة الفنية (وليس الزمنية) داخل الإدارة أو المؤسسة، وربما يفوق الثاني الأول في خبرته في مجالات أخرى أو تميزه بمهارات لا يجيدها المرشح الأكبر سنا. على العكس من ذلك، تتسم ''المدرسة الإدارية المتحررة'' بأنها جريئة ومقدامة على المخاطر، وتمنح الثقة للمرشح الشاب إذا كان يتمتع بالكفاءة اللازمة يقينا منها بأنه قادر على كسر التردد واتخاذ القرارات السليمة وحل المشكلات (مهارات اتخاذ القرار وحل المشكلات) حتى لو ارتكب أخطاء هنا أو هناك فهي في النهاية واردة لأنها ''ضريبة التعلم''، فالأهم أن نتعلم من الأخطاء ولا نكرر ارتكاب الأخطاء ذاتها. أتباع التيار الإداري المحافظ يكثرون في القطاع العام، فالتعيينات هناك تتم على أساس ''الأقدمية''، ومهما فعلت الكفاءات الشابة من جهود مضنية لإثبات نفسها في العمل، نجد أن أمامها طابورا طويلا من ''المخضرمين'' يحولون بينهم وبين تولي مناصب قيادية أو حتى مناصب ضمن الإدارة الوسطى. وهذا في حد ذاته يدفع تلك الكفاءات الشابة إلى الإحباط والخروج من الأفق الحكومي والتحليق في الأفق الخاص. وربما هذا يفسر لنا أن التغيير في مؤسساتنا الحكومية ذو وتيرة بطيئة، ولن يتحقق سريعا إلا على أيدي قياديين شباب اختيروا على أساس الكفاءة (وليس الأقدمية أو الواسطة!). إن القطاع الحكومي يخسر كثيرا عندما يأخذ بمعيار ''الأقدمية'' في تعيين المديرين على حساب معيار ''الكفاءة''، بل إن بعض الجهات في القطاع الخاص أصابتها عدوى ''الأقدمية''، وبالتالي بدأت في التفريط في كفاءات شابة غادرت إلى الجوار الخليجي. ورغم ذلك، أرجو ألا يفهم إخوتي الشباب، خاصة من خريجي وخريجات برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي، أنني أدعو إلى منح الشباب مناصب قيادية بمجرد حصولهم على الشهادة (لمجرد أنهم شباب)، والاستغناء عن القدرات من المخضرمين والمتمرسين، فهذا لا يعقل، إذ على ''الدماء الجديدة'' حال سريانها داخل عروق المؤسسات أن تتريث وتكتسب الخبرة، وتعبر محطات الوظيفة بكل تأن وتدرج ومن دون تسرع، على أن يقضوا فترة كافية في كل محطة (نضجك في المرحلة الحالية يؤهلك للمرحلة الأعلى)، مع الاستفادة من خبرة زملائهم الذين سبقوهم في الخدمة، واحترام آرائهم حتى لو اختلفوا معهم في أسلوب العمل، وآلية اتخاذ القرار وحل المشكلات، وأنا واثق أنه بعد هذا الصقل والعرك والفرك يستطيع الشباب أن يعززوا ثقة المؤسسات بهم بأنهم ''نجوم صاعدة'' ! ومن باب التوفيق، يمكن الجمع بين رؤية المدرسة المحافظة (التركيز على الأقدمية) ورؤية المدرسة المتحررة (التركيز على الكفاءة)، والخروج برؤية مشتركة تتحقق من خلال إدارة المواهب والتخطيط الإحلالي (التعاقبي)، حيث يتم أولا وضع خطة لتحديد شاغلي المناصب العليا والوسطى داخل المؤسسة ممن سيتركون الخدمة خلال السنوات المقبلة (إما بالتقاعد العادي أو المبكر)، ثم تحديد الموظفين الشباب (المرشحين) ممن تتوسم فيهم المؤسسة المعرفة والقدرة، وتبدأ في رعايتهم بمختلف الأساليب (منحهم فرصا إدارية كالتدريب، والابتعاث، والتكليف بمهام عمل، وإدارة المشروعات... إلخ)، مع تقييم مستمر لأدائهم طوال فترة ''التطوير'' هذه، ومن ثم توضع أسماء المؤهلين منهم في قوائم المرشحين لخلافة المديرين الموشكين على المغادرة، بدلا من أن يتم السيناريو المعهود (الأوتوماتيكي) : خلافة الموظف الأقدم مديره السابق! نقلا عن الاقتصادية