إذا توقفت ذاكرة ثقافية عند رمز لا تتعداه تتيبس وتنكسر. وفي هذا العام تركنا طارق عبد الحكيم (1918-2012) الذي أطلق مع قرينيه الشاعرين الكبيرين إبراهيم خفاجي ومحمد الفهد العيسى "الأغنية السعودية" في منتصف الخمسينيات، وأسس أول لبنة في طريق التعليم الموسيقي المنتظم، وأكثر من فرقة موسيقية خدمت المجال العسكري والإعلامي (الإذاعة والتلفزيون) والتثقيفي والتعريفي عبر جمعية الثقافة والفنون إذ طافت أكثر من بلد. وقد يكبر سؤال "البدايات الغنائية" الذي يسبق زمن طارق عبد الحكيم، ويبقى ملتبساً بسوء التأريخ والأرشفة، وتتناثر الأسماء التي التقطت أصواتها لاحقاً بأجهزة تسجيل هاوية لا محترفة مثل ما حدث لحسن جاوة وسعيد أبو خشبة، ومن استمر في الغناء مواكباً إمكانيات الإذاعة وتداولية الأسطوانات بعد تأخر مثل محمود حلواني ومحمد علي سندي. وهو سؤال قابل لمحاولات من الإجابات حيث يمكن أن نرى تداخلاً بين تكريس قالب"الأغنية السعودية" مع جيل لاحق لطارق عبد الحكيم إلا أنه وازاه وسبقه بمراحل في نفس الفترة إذ لم يمض على أوائل أعماله المسجلة بأصوات غير سعودية، مثل نجاح سلام، سوى سنوات قليلة منتصف الخمسينيات حتى أطلق طلال مداح عام 1960 أغنيته"وردك يا زارع الورد" التي تخطت نموذج أعمال عبد الحكيم الأولى المعتمدة على موتيفات موروثة في جانب منها، وفي جانب آخر تعتمد قالباً جاهزاً وهو الطقطوقة الذي تطور من قالبي الدور المصري والقد الحلبي والبستة العراقية. كما لا ينكر انطلاق جيل يكبر مداح -ويعقب عبد الحكيم نفسه- قليلاً في تأسيس اتجاهات لحنية تتجاوز البدايات وتعثراتها عند عبد الحكيم بينما تساند مداح في انطلاقته ومثل هذه الاتجاهات أسماء ستكون لها يد طولى في تثبيت شرعية "الأغنية السعودية" طيلة عقود كل من مطلق الذيابي وعمر كدرس وعبد الله محمد وفوزي محسون ومن لحقهم مثل جميل محمود وسراج عمر وعبد الله العماري. لعل سؤال البدايات يضعنا في أكثر من حالة بحث ودراسة لأوائل التسجيلات الغنائية سواء في الجزيرة العربية كلها أو أبرز حواضرها مطلع القرن العشرين. إذا عرفنا أنه حسم أمر تسجيلات غنائية تثبت للكويت مع عبد اللطيف الكويتي عام 1927 في القاهرة، وليس عام 1913 مع عبد الله فضالة في الهند كما يزعم ولا ثبت ذلك! وثبتت تبعاً لذلك تسجيلات غنائية أخرى خاصة لكل من ضاحي بن وليد عام 1932 ومحمد بن فارس عام 1933 في بغداد، ولم يثبت أن طارق عبد الحكيم سجل في البحرين عام 1939 كما نفى ذلك لي الباحث مبارك العماري! وتطالعنا أكثر من حالة فيما يخص أوائل التسجيلات من منطقة الحجاز سواء التي كانت عن طريق الرحالة والمستشرق الهولندي ك.سنوك هرخورنيه بين عامي 1908 و1909 أو للمطرب هاشم العبدلي بين عامي 1919 و1920 أو لكوكب الحجاز في الأربعينيات على ما يعتقد .. ولكن كيف يمكن أن نقرأ أثر تلك التسجيلات وقيمتها في مسار حفظ الموروث الغنائي ومن ثم انبثاق الأغنية لاحقاً خلال القرن العشرين. سنرى ذلك. قلا عن الرياض