رصدنا في الحلقة الأولى من هذه الدراسة المركزة على تجربة طلال مداح (1940-200) في المشهد الغنائي السعودي وما كانت تمثله المقدمة من قراءة لمصادر الغناء كمرجعية لجيل طلال مداح خلال منتصف القرن الماضي. نحو خارطة لأجيال الغناء إن رسم خارطة للأجيال الغنائية من خلال مقاربة تحقيب تعطي فرصة لمعرفة المنعطف الحاسم الذي وضعه طلال مداح مشتركاً مع صوت عبدالكريم عبدالقادر ومصطفى أحمد في الكويت كذلك عبدالحليم حافظ ونجاة الصغيرة في مصر وفيروز ووداد في لبنان إبان مرحلة الستينيات. يسجل لنا التاريخ أن أول من سجَّل في القاهرة أعمالاً غنائية من منطقة الحجاز هو الشريف هاشم العبدلي (ت.1926) حيث سجل خمسة أعمال مختارة بين مجسين: "سبَت بذات المحيا وصاح في العاشقين" ودانتين: "ترفَّق عَذُولي وبات ساجي الطرف" ومجرور واحد: "إلهي سألتك" لصالح شركة ميشيان عام 1919- 1920.ويذكر أن القنصلية الهولندية قد سجلت في عام 1905بعض التسجيلات الارتجالية لأصوات حجيج وآذان كذلك بعض نماذج غناء فريق من مجاميع غناء فن الصهبة ويذكر كان من بينهم المغني الكبير حسن جاوة، ولكن نبقى على ما سجَّله العبدلي حيث يمثل أول تسجيل حفظ للغناء الحجازي، وإن كان لم يسعف الزمن للعبدلي البقاء لفترة أطول لنرى مسيرة تطوره بينما بقي فترة حياة أطول كل من لحقه ممن سجل مثل القمندان من اليمن، وعبداللطيف الكويتي وعبدالله فضالة من الكويت كذلك ضاحي بن وليد ومحمد بن فارس من البحرين. لم يكن فن الغناء مهنة في الحجاز ولا "نجد" بينما كان يعرف الخاصَّة في الإنشاد الديني في المولد النبوي وأداء المجس في الأفراح في الحجاز، مثل: إبراهيم السمان كذلك ترنيم نصوص المواعظ والحكمة وقراءة القصائد بإلقاء غنائي في نجد مثل: عبدالله العجيري (ت.1932). وإذا أردنا رسم خارطة تحقيب لأسماء شكلت مدارس الغناء في الحجاز بين المكي والمدني والطائفي حيث كانت الطائف معلماً صيفياً لإحياء الأمسيات والأفراح ما وفر تلاقح التجربة والتعلم بين الأجيال في نقل وتلقي الفنون وإعادة تدويرها بين بعضهم بعضاً. سنعرف جيلاً مؤسِّساً من رواة الغناء ونقلته يغلب أن يكونوا من مواليد نهايات القرن التاسع عشر بين (1870-1899) الذين لم يسجل منهم إلا القليل عبر هواة/سمِّيعة لأعمالهم يحضرون الحفلات والأفراح التي يحيونها فيما لم يسع أحد منهم إلى تسجيلها لكونها لم تكن عملاً أو مهنة احترافية سنجد أساطين كباراً مثل: حسن جاوة وإسماعيل كردوس وسعيد شبانة ثم سعيد أبو خشبة الذي جعل من الفن عملاً احترافياً لكونه، غير إجادته الغناء، كان عازفاً متمكناً على الآلات الوترية. وطلع، في مرحلة لاحقة، جيل في أكثره لم يكن متفرغاً للغناء مثل: محسن شلبي (1912-1980) ومحمد علي سندي (ت.1984) ومحمود حلواني وعبدالرحمن مؤذن الذين لمعوا في الأربعينيات فواصلوا طريق الغناء وتميز محمد علي سندي بتمكنه العزف على العود كذلك معرفته الواسعة بالأغاني المصرية من قصائد وطقاطيق جعلته يفترق عن غنائهم فيما لم تخل جلسات غنائية حفظ بعضها الهواة من مبارزات أداء بينه وبين مؤذن بمرافقة لعمر باعشن عازف الكمان والمغني في الألوان الغنائية الصعبة الأداء مثل المجس والدان فيما سجَّل التلفزيون السعودي بعض أغاني سندي نهاية السبعينيات. يلحق بذلك الجيل التقليدي المحترف جيل ثالث توفرت له منافذ تعلم الغناء والموسيقى كذلك منافذ الإذاعة والمسرح. بدت في الجيل الثالث ملامح مدارس لحنية وطرق أداء متباينة لكونها بدأت إرهاصات انفصال شخصية المغني عن الملحن كذلك وضحت آثار تطور قوالب وطرق تلحين الغناء العربي على أعمال بعضهم، وهذا الجيل يظهر على رأسه: مطلق الذيابي وطارق عبدالحكيم ومحمد الإدريسي وعبدالله محمد كذلك أبو سعود الحمادي وشادي الرياض (سعد اليحيا)، وتنوعت ملامح النتاج الغنائي بين القصيدة والموشح عند الذيابي كذلك تطوير الموروث الغنائي عند عبدالحكيم فيما بانت ملامح الأغنية كقالب فني يحمل سمة البيئة عند عبدالله محمد ومحسون والحمَّادي. إن توجه حناجر إلى تسجيل الأسطوانات في البحرين (سالم فون وجرجي فون)، ونشوء الإذاعة وتوفر قسم الموسيقى فيها ومساهمة مطلق الذيابي الشاعر والملحن والمغني، وعازف القانون زين عبدالغفار وعازف الكمان عبدالله ماجد كذلك نشوء مدرسة موسيقات الجيش العربي السعودي عام 1953بإدارة طارق عبدالحكيم وتخريجه مجموعة من العازفين الأفذاذ مثل عبده مزيد وثواب عبيد ومحمد عشي وزيني عبدالغفار وعبدالله ماجد كل هذه الأسباب مجتمعة ساهمت في دعم فن الغناء كاشفة عن تباين الأدوار الإدارية والإنتاجية والإبداعية. وهذا كله أسهم في النقلة التي جاءت على أيدي تلامذة الجيل السابق الذي استطاع أن يضع لبنة أساسية في صناعة الأغنية السعودية. صوت الأرض إذا غنى ظهر صوت طلال مداح بين جيل سابق له من الملحنين-المغنين مثل: عبدالله محمد وفوزي محسون وبين مغنين تقليديين أو شعراء مغنين مثل: مطلق الذيابي وأبو سعود الحمادي كذلك من جايله مثل الملحنين-المغنين: جميل محمود وغازي علي والشعراء-المغنين: سعد إبراهيم وعبدالله السلوم. توفرت لطلال مداح فرصة دعم كبيرة كموهبة تمايزت بين مجموعة من المواهب الكبيرة المختلطة بين الشعر والتلحين والغناء كذلك تمكن طلال من التفكير بشكل الأغنية بينه وبين صاحبه عبدالرحمن خوندة عازف الكمان ومعلِّمه محمد الريِّس خلال فترة البداية التي أسهمت فيها ألحان عبدالله محمد بشكل كبير عوضاً عن تأثر كبير لطلال بعبدالله محمد من خلال لحنه الشهير: سويعات الأصيل. واستطاع طلال أن يحسم أمر موقفه من شكل الأغنية التي كانت تتخذ جملة شعرية ولحنية موحدة متكررة في الأغنية ما لم يكسر رتابتها ارتجال لحني أو موال أو رقصة، وهذا تجلى في ألحان طارق عبدالحكيم وفوزي محسون وعبدالله محمد، وقد وضع طلال ذلك في ذهنه ليضع لحنه الأول: ورد يا زارع الورد - 1960(كلمات عبدالكريم خزام) حيث دعمه الإعلامي عباس غزَّاوي ومطلق الذيابي الذي كان يرى في صوته ما يختلف عن الأجيال السابقة وهذا ما جعله يرفض لاحقاً إجازة صوت فوزي محسون مغنياً في الإذاعة لأنه لم يكن Style أي ذا أسلوب مختلف!. كانت رحلة طلال إلى بيروت عام 1962التي سجَّل فيها قصيدة: سويعات الأصيل (ندى الجزيرة-محمد الإدريسي)، وأغنية: أهل الهوى (شاعر نجدي) من التراث الخليجي أولى تجاربه في احتراف الغناء. ونلمس في تسجيل طلال لقصيدة كذلك من تراث خارج منطقته ما يكشف ثقافة وتطلع طلال نفسه إلى شكل الأغنية وإلى تشربه ألواناً مغايرة، وهذه سمات لمن سيعبّر عن إرهاص حداثة عربية لا تنخدع بمجرد الانتشار والذيوع فيما تبقى المكونات المحلية تنقل جمهوره معه لا تتيح له الانفتاح على جمهور مغاير.