مع بزوغ شمس كل صباح، تستيقظ «ب. م» باكرا لتعد إفطار أسرتها وتمضي بعدها على أقدامها إلى منزل أسرة مجاورة تعمل فيه خادمة لمدة ست ساعات، وبعد الانتهاء من واجباتها، ترجع إلى بيتها الشعبي بأحد أحياء الطائف لتعد طعام الغداء لأسرتها، على أن تعود مرة أخرى قبيل صلاة المغرب إلى عملها خادمة، قبل أن تختتم يومها بتجهيز وجبة العشاء لأفراد أسرتها. هكذا تقضي المواطنة «ب. م» أيامها خلال العامين الماضيين، بعد أن تخرجت من معهد الطائف للمعلمات، لكنها كما يبدو لم تجد وسيلة لقهر الملل والفراغ وسد الحاجة بعد طول انتظار للوظيفة تجاوز تسعة أعوام إلا بالعمل خادمة لا يتجاوز راتبها ألفي ريال شهريا. لن أمد يدي «ب. م» رفضت في البداية نشر قصتها أو الحديث عنها، لكنها ما لبثت أن تراجعت ووافقت: «عملي خادمة ليس عيبا فالعمل الشريف لا ينتقص من قيمة الإنسان، فأنا أسمع عن فرَّاشات وعاملات نظافة سعوديات في المدارس والمستشفيات ولم أسمع من يصف عملهن بأنه عيب، لكن العيب أن أمد يدي للآخرين، أو أن أظل عاطلة عن العمل، فأنا أسعى من أجل مساعدة أسرتي وتذليل الصعوبات التي تواجهنا، خاصة بعد أن فشلت في العثور على عمل بمؤهلي الدراسي، فكلما تقدمت لأي وظيفة كانت الردود تحطمني، فالمتخرجات من معهد المعلمات ليس لهن أمل في التعيين ولو بنسبة 1 % ، لا معلمات، ولا موظفات في أي جهة حكومية أخرى». تخرجت فتاتنا من معهد المعلمات بتقدير جيد جدا عام 1421ه، وكانت سعادتها غامرة بالتخرج، وأقام لها والدها حينها وليمة بتلك المناسبة، وكانت تعتقد أنها أصبحت معلمة ولم يتبق أمامها سوى وقت قصير ليتحقق حلمها بالعمل «كنت أقول لبنات عمي في ذلك اليوم: سأشتري منزلا وسيارة.. ولكن ما حصل هو أنني بقيت أنتظر لعام وعامين وثلاثة، وبعد سبعة أعوام مُرَّة تلاشى الحلم تماما ». عمل بالصدفة ولم يكن العمل في وظيفة خادمة مخططا له، فقد جاء مصادفة: « كانت جارتنا تستعد لوليمة أقامها زوجها فطلبت مني مساعدتها، وهناك عرفتني إلى إحدى زميلاتها وتعمل طبيبة، فتجاذبت معي أطراف الحديث وتعرفت على قصتي مع الملل ورغبتي في مساعدة والدي ماديا، فاقترحت علي بطريقة مهذبة أن أعمل في منزل أسرتها، فوالدها توفي ووالدتها مريضة بالقلب وتحتاج إلى من يرعاها، كما أنها لا تحبذ التعامل مع الخادمات الآسيويات.. في البداية كانت الفكرة صادمة لذلك رفضتها على الفور، لكني فكرت فيها لاحقا بعقلانية فاستحسنتها، خاصة وأن المنزل خالٍ من الرجال». والدا «ب. م» أيضا رفضا الفكرة وبشدة في بادئ الأمر، لكنهما وافقا والألم يعتصرهما بعد إلحاح منها وشرح لطبيعة العمل، وأنه عند أسرة محترمة ولا يوجد بها رجال. « لا أخفيكم سرا أنني في الشهر الأول كنت أشعر بخجل وتردد شديدين، وأنا أمضي إلى عملي الجديد، ولكن المعاملة الحسنة من قبل الأسرة التي أعمل لديها جعلتني أواصل العمل، لم أسمع أي أحد يناديني بغير اسمي أو معلمة البيت أو أختنا، أما الأم فتعاملني كأحد بناتها، ودائما ما تبدي تعاطفها معي». معلمة البيت «ب. م» تعمل لدى أسرة مكونة من أم وثلاث بنات وطفل عمره ثمانية أعوام، أما من طلبتني للعمل فهي تقيم مع زوجها في منزل منفصل.. وتبدأ الفترة الأولى لعملها من الصباح حتى انتهاء وجبة الغداء، أما الثانية فتبدأ بعد صلاة المغرب إلى وجبة العشاء، وتتجاذب الأحاديث مع البنات وتقوم بتدريسهن قبل أن تعود إلى منزلها عند العاشرة مساء. كانت هناك بعض الأوقات التي شعرت فيها «ب. م» بالحرج من عملها، خاصة عندما تخرج لاستقبال الضيوف أو تقدم واجب الضيافة إليهم، فقد كانت تتردد في الخروج إليهم: « شعرت أنه من المفترض أن أطبق فعلا ما أردده بأن هذا العمل ليس عيبا، فأصبحت لا أتردد في تقديم القهوة والطعام للضيوف، وقبل هذا وذاك أقدم نفسي على أنني خادمة لهذه الأسرة الكريمة». وتعترف «ب. م» بأن عملها خادمة يعود لسببين: الحاجة وسد الفراغ، لكنها تؤكد أن السبب الثاني كان الأقوى: « أنقذني عملي من أزمات نفسية، فقد أدميت قدماي في سبيل البحث عن وظيفة، ولم أترك جهة حكومية أو خاصة إلا وتقدمت إليها، ولكن جميع الأبواب أغلقت في وجهي، فأغلب الجهات تطلب شهادتين: في الحاسب الآلي، واللغة الإنجليزية..تعبت كثيرا وكان تعبي يتضاعف كلما سمعت والدي يشكو لوالدتي من قلة المال والأزمات التي نخوضها بسببه». وذكرت «معلمة البيت» أن أكبر عائق في مهنتها هو مواجهة الناس لها خاصة من يعرفها؛ لأنها تشعر أن هناك من سيوجه لها كلاما يجرحها ويهين كرامتها، فضلا عن النظرة السيئة التي ستلاحقها؛ لذلك حرصت على ألا يعلم أحد بعملها سوى أسرتها، أما الآخرون فيعتقدون أنها تعمل معلمة لأبناء هذه الأسرة. وتأمل «ب. م» أن يكون قرار خادم الحرمين الشريفين بتوظيف خريجات معاهد المعلمات بداية الطريق لتحقيق حلمها بالعمل معلمة، ولذلك ستتقدم للوظائف المستحدثة بمجرد طرحها