لا يمكن فهم الأحداث دون (صيرورتها التاريخية) وترابطها الزمني، ومنها صيرورة الحضارة الإسلامية؟ وما يحدث لا يشذ عن القانون التاريخي، في العلاقة الجدلية بين الأحداث، فكل حدث هو نتيجة لما قبله، وهو وبنفس الوقت سبب لما سيأتي بعده. وبذلك يصبح الشريط التاريخي مثل الفيلم فلا يمكن فهمه من خلال إيقافه عند لقطة بعينها، بل لابد من استعراض الفيلم التاريخي، حتى يمكن إدراك المغزى التاريخي لجملة الأحداث كلها. هذا الفهم (الحركي) هو الذي أوحى لعالم الاجتماع الفرنسي (أوجست كومت) في دراسته المجتمع على (وضعيتين) كوضع جامد استاتيكي (تشريحي ANATOMICAL)، والمجتمع كوضع متغير متحرك (ديناميكي). وفي الطب نعرف هذه الحقيقة أي الجسد كوضع ثابت (تشريحي). وهو ما يفعله الأطباء المبتدئون في التعرف على تشريح البدن، في قاعات تشريح الموتى، وهو منظر جعلني وأنا أواجه جثة امرأة مستسلمة لمبضع المشرح بدون مقاومة وحس، أبكي طوال الطريق من القاعة حتى المتحف الحربي القريب من جامعة دمشق، وأقول كانت امرأة عاشت كما عشت، وها هي شيء للقطع والتشريح والاهتراء حتى لا يبقى منه شيء في النهاية، سوى العظام البالية لتلقى في مكان مجهول. أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد.. نحن نعرف الجسد كعلاقة أشياء ثابتة دون حركة. والجسد هنا هامد ميت والحياة شيء آخر متقلب متغير. نحن نعرف الجسم في العادة من خلال حقيقة أخرى ذات منعرجين: الحركة الدائمة المنظورة الحاضرة كما في علم الفسيولوجيا (علم الغرائز) ووضع متغير عبر الزمن أيضاً في اتجاهين: (نمو) عند الجنين أو (نكس وتراجع) في (الباثولوجيا PATHOLOGY) ما يعرف بعلم التشريح المرضي. وهو ما يتطابق مع خريف العمر الذي أعيشه حاليا بكل امتلاء. ويعرف الطب هذين بمصطلحين: (النمو والانتعاش REGENERATION) و(التراجع والنكس DEGENERATION ) واستخدم القرآن هذا المصطلح الأخير (ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون؟). في نهاية القرن الرابع عشر الميلادي وفي قلعة منعزلة في أقصى المغرب العربي، جلس رجل غريب الأطوار.. سياسي.. داهية.. مخضرم، سلقته الأحداث الجسام وأنضجته عظائم الأمور، محلق التفكير جم النشاط، يسطر بحثاً في التاريخ، غريب العنوان (كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر) يخلص فيه إلى نتيجة لم تخطر على بال أحد من قبل، فقد استطاع أن يحلق بعقله عبر القرون، فيصل إلى فهم حركة التاريخ، ويكتب نعوة الحضارة الإسلامية بهذه الكلمات القليلة: (وكأني بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب، لكن على نسبته ومقدار عمرانه. وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض، فبادر بالإجابة، والله وارث الأرض ومن عليها، وإذا تبدلت الأحوال جملةً، فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره، وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث).. هذا الرجل هو ابن خلدون التونسي.