محمد خيري آل مرشد لقد انتهى عصر الأوصياء على العقول والجيوب والضحك على الذقون، وإن بدا ذلك ظاهرا في الغالب، إلا أن هناك من كسَّر الأصنام فعلا.. لقد آن الأوان للتوقف عن استباحة الفكر والانتماء، وإيقاف حركة التفكك المجتمعي البطيئة إلا أنها طاحنة، فالفصل الفكري الدائم والقائم اليوم هو فصل الصيف ولو في بداياته التي ترتفع حرارته باطّراد مع قدوم أشهر أكثر سخونة، ليقع المستحيل إن استمر حال تفضيل برقيات التأييد والولاء على الحرية الفكرية والنقد البنَّاء، التي هي عوامل أصيلة في بناء القيم الأخلاقية والإبداعية على حد سواء، واستقرار المجتمعات وتقدمها وتطورها إيجاباً. إن كل متابع لشؤون المجتمعات، وكل راصد لحركاتها، يستطيع ملاحظة وإدراك عوامل اغتيال الإحساس بالانتماء لمجموعة ما أو مجتمع ما وعلى رأسها عدم عدالة هذا المجتمع تجاه أفرادها، فعند غياب وجود آلية حافظة لحرية وكرامة وحقوق الفرد، وكذلك إمكانية عدالة تفاعل الفرد اجتماعياً وسياسياً وعلمياً داخل مجتمع ما، يبدأ الفرد بالبحث عن مجتمع آخر يحميه ويحافظ على كيانه النفسي والاجتماعي بل والعلمي؛ ليوفر له إمكانية التفاعل والتطور فيه ليرتقي به ومعه. فالإنسان العاقل يحاول دائماً البحث عن جغرافية انتماء آمنة فكرياً وجسدياً، وهكذا تبدأ المجتمعات هذه غير الآمنة بفقدان بعض أعضائها وهذا يستمر باستمرار تطور الوعي لدى الأفراد، ولا يغتر أحد بأن المسألة طارئة أو غير ذات خطورة، بل إنها من أخطر عوامل زوال أشكال المجتمعات بل ومكوناتها. ولا عجب أننا نجد في بعض بلداننا بعض الانتماءات لحزبية ما، تطغى على انتماء الأوطان لأن الانتماء إلى الحزبية قد يؤمن مالا يؤمنه الوطن من حماية انتماء لهذا الفرد، وإذا تمادت هذه الإدارات في عدم الحفاظ على انتماء أبنائها فقد يكونون ورقة ضغط أو تنفيذ أجندة مدمرة عن طريق استغلالهم من قبل أصحاب المصالح الضيقة والأنانية لتحقيق مآربهم هم، لا نبرر ذلك بالتأكيد إنما نحذر من وقوع مصائر الشعوب بين أيدي أولئك الذين يتمتعون بمهارات عالية وأخلاقيات سهلة للتعامل مع قوى خارجية نافذة ضمن مصالحهم، والأخيرة تسعى دائماً للهيمنة.. وإن من يدفعهم إلى ذلك هو أشد خطورة على المجتمع بعدم الاكتراث بتنمية الانتماء الوجداني والفكري للأفراد، بل هناك من يقوم بتقويضهم، وذلك بالعبث بمقدرات المجتمعات وإيجاد بيئة منفصلة لأصحاب النفوذ فيها كل الامتيازات لهم لخنق بيئة الأفراد دون العمل على جعلها جاذبة لهم أيضاً، بأن تكون العدالة والمساواة ملاذاً لكل المنتمين لجغرافية هذا المجتمع، وأقصد هنا كل من ولد وترعرع في هذا المجتمع لأنه استقى مثل غيره كل عوامل الانتماء هذه أو عدمها، وهو بالتأكيد عنصر إيجابي يمكن الاستفادة منه وهذا هو الشكل الحضاري الوحيد للانتماء الذي يجب أن تسعى إليه كل إدارات المجتمع ومؤسساته ، إن كان حضاريا مهتما بشكل وطبيعة علاقات كل أفراده الذين يعيشون على ترابه. نقول في النهاية، إن التغافل والتهاون في مسألة جوهرية كمسألة الانتماء والسماح للبعض بتقويضه أو بهدمه وبكل أشكاله أهمها الوطني، الذي يعتمد على الانتماء الوجداني والفكري والثقافي وغيره أمر خطير للغاية، يستدعي تطبيق حلول وصيغ أصيلة أهمها إقامة العدل والمساواة والمشاركة الفعلية لكل طبقات وأفراد المجتمع فيما هم شركاء فيه أصلاً، وإيجاد صيغة تساعد على قيام مجتمع عادل واعٍ موحَّد قبل هروب كثيرين وتغريبهم انتمائياً، لأن بعض أنصاف المثقفين وأنصاف المتحضرين أصبحوا يروجون لهذا التغريب الذي استوردوه كموضوع استهلاك غربي جاهز منفصل عن قيم المجتمع الأصيلة.