كثيرة هي الأسماء الجميلة التي بهرتنا وحفرت في أذهاننا نقوش إبداعها، وفي الذاكرة نحتت تلك الأسماء، حتى بات من الصعب أن ننساها، نفتقد وجودها، ونتألم لغيابها، وإن كانوا حاضرين بيننا، بما تركوه لنا من آثار بقيت خالدة في ذاكرتنا، نسهر على كلماتهم وأفكارهم، نتجادل حول آثارهم ونتحاور، وكذلك نختصم. ومن المفارقات العجيبة أن في فضاءات إبداعنا في القصة والرواية، أسماءٌ لها وقع السحر، وألق النجوم، وفي تجليات الذاكرة تبقى تلك الأسماء فينا مؤثرة، تنبض روح إبداعها بالحياة. عبدالعزيز المشري، من بين تلك الأسماء، اسم يتألق في إضاءات السرد وإشراقاته، وهو الذي رسم موته على الماء، وجاس في أحوال الديار بأريج الكادي، في زمن كانت الزهور تبحث فيه عن آنية، وقد رحل ذلك «السروي» الذي أتعبته أسفاره. وبقى لنا صوت إبداعه الذي يمثل تاريخا مضيئا في أدبنا الحديث، عبدالعزيز المشري كان من أوائل الحداثيين المتميزين الذين كتبوا الرواية، وتميز بما أبدعه في عالم القرية في الجنوب، كتب بروح الأنثروبولوجي وليس العاشق الحالم الواهم بالأساطير، فقد صاغ الواقع وعمد إلى إعادة تركيبه، وفق رؤية فكرية وفنية خاصة، وقد نسأل: لماذا؟ «لأنه عرف أن أهل القرى لا يزالون الوحيدين الذين يمعنون الرؤية والتبصر والتنبؤ كما هي سيرة الشعوب القديمة»… الإجابة عن سؤالنا نجدها في تلك المقولة التي رددها عن المبدع القروي المثقل بهموم القرية ومتاهاتها. كان ألمي قد تعاظم في الليلة التي كرمناه في نادي جدة الأدبي، قبل ستة عشر عاما، وقد رأيت الدمعة في عينيه، حين رأى الحشد الذي ملأ القاعة من الأدباء والمثقفين الذين أحبوه وعشقوا إبداعه، وتألمت أكثر حين قال إنه ما كان له أن يتمنى في تلك اللحظة إلا أن يقف بصلابة القروي، وقد جاء على مقعد متحرك يحمل أوجاعه؛ ليعانق بكلماته كلمات الذين جاؤوا ليشاركوا بالاحتفاء به وتكريم عطائه الإبداعي، قلت في تلك الليلة مستنطقا ألمي بما يعاني وأنا المبهور به مبدعاً يحترق بحروفه وكلماته ويكتب بمداد الألم (حين نذكر المشري، ومشروعه السردي، وكتاباته، نتبين صوته المتميز يتغلغل في داخلنا، ونستمطر الكلمات من الذاكرة، فنجده ذلك القلم المبدع الذي يأخذ جذوره من الألم والمعاناة، وهو اسم يعلو بين الأسماء الفارعة في الطول والنحول)، حين سألته عن أحلامه وطموحاته، قال معبرا عن كل ما في مخزون ذاكرته، وهو يعتصر ألمه: ألم تر إلى الذين يزاحمون عباراتهم وكتابات إبداعهم، لتكريس البطل الفرد المهزوم، وهو البطل الذي لم يهزمه مرضه، ولم تقهقره أو تهزمه أحزانه وآلامه؟ ألم تر أولئك كيف جعلوا من الأمل الجميل إلى الحياة مقبرة لكل بهجة.. ووأد لكل الأشياء الجميلة؟! لأن الكتابة التي تخلو من تجسيد انهزامية البطل وترديه، هي كتابة لا تحاكي هم الإنسان). جمع المشري في إبداعه وبوحه بين (السيف) و(السنبلة)، ورسم لنفسه النهاية التي يكتبها الروائي في خاتمة نصه. لم يصنع الألم إبداع المشري، ولكنه صنع هو من الأمل حلماً انتصر به على آلامه، وبحق لم يكن المشري صاحب تجربة فريدة في إبداعه فحسب، بل كان أقوى من أن تضعفه معاناته القاسية مع المرض، ووجدناه يستلهم من ألمه، وجَعَله وقوداً لإضاءاته السردية. فهو القروي الذي لامس بإبداعه نبض القرية.. بعيون مريض لم يفقده مرضه مباهج الحياة.