هناك مدن تسكنها ... تعبرها ... لكنك تخرج منها دون شيء ، أو ربما أفقدتك شيئا ، منحتك وجعا جديدا بغربة تشابه تلك الغربة التي نعيشها حينما نكتشف بأن الأشخاص الذين عبروا من رصيف القلب لم نعرفهم كما يجب ! مدن تشبه - كثيرا - وجوه وحكايات وقرارات لم تكتمل بعد ، أو ربما لم تعش طويلا ... مدن باردة .. لاتمنحك دفء الروح ، تبقى عند شوارعها بنصف توق ، وبجسد متقزم ، منطو على فوضاه العارمة. وهناك مدن هي من تحل فيك ، تسكنك ، تغيرك ، تحلق بك ... بعيدا ... تشبهك حد الدهشة ، وتتطابق معك بشكل مباغت ومخيف ، تسكن كل شيء فيك ، تملأ روحك بمساحة المكان ، وشكل الأرصفة ، ورائحة الجنون الشهي ... مدن لا تغادرك أبدا حتى تكتشف بأنك كبرت معها ، وتألمت معها ، وضحكت معها ، ومارست ذات العته الذي تمارسه .. مدن لا تشبع منك ولا تشبع منها ، تزورها بجسد كبير ، فتخرج منها طفلا جميلا .. مدن تغيرك - تماما - تغيرك حتى تكتشف بأنك طائر ينقر نوافذ الأماكن بحكاية ريش ، تبكيها كثيرا حينما تغادرها ، لأنك تكتشف بأنك - تغيرت كثيرا - لديها ، ومازالت حتى مع حالة التغيير الخرائطي تشم رائحتها ، وتسمع جميع صخبها في رأسك ، وتتذوقها كما تذوقتها للمرة الأولى تحملها بداخلك فتختلط فيك .. فتشعر بأن غيومها تسبح بداخل رئتيك. فأي سطوة تلك لمدن تعيد تشكيلك من جديد ؟ أي مدن - تلك - توقظ بداخلك الخيال والحلم والجمال فتنام بداخل عيونها كحبيب لا يطيق فراق حبيبه الذي يشبه تماما ؟ أي مدن تلك تملك سطوة المكان الباذخ الذي يحرضك لحالة انفلات شهية ، تكتب فيها ، تبدع فيها ، أو ربما تنعزل عزلة التوق ، فتسمع صوتك من الداخل ..؟ كيف لتلك المدن أن تشعل حرائقها في الكاتب ؟ وكيف تمنحه " السر " حتى يعيش حالته الخاصة فيبقى بوجه وتكوين مكتمل من الداخل ؟ فهل للمدن - حقا - تلك السطوة ؟ إن مدنا تغادرك لا تستحق أبدا أن تستبقيها في الذاكرة ، بل انك دائما مضطر أن تركلها بتفاصيل صغيرة ، حتى إن كنت غير معني بها ، بل إن الحقيقة الكبرى تكمن في تلك المدن التي تغادرها وأنت تتألم ، لأنك عند حالة أشبه بفقدان الحياة التي لفرط ما منحتك تشبعت بها ، فليس هناك أجمل من عطاء يولد حالة الولاء الدائمة .. وليس هناك أقسى من أن تبحث عن عطاء لا يأتي إلا مريضا ، متعبا ، فتداويه بشراب المغادرة تماما كما نداوي " السعال " بشراب السعال ... فأي المدن تلك التي منحت المبدعين من الكتاب " حكاية " عبروا من خلالها شوارع الفكرة إلى استحضار الروح عند الكلمات المدهشة ، والنصوص السردية الجميلة ؟ تلك المدن التي تمنح المبدع إبداعا ، وتمنح الزائر إلهاما ، وتمنح المتألم نسيانا وتمنح الفاقد شفاء ! الأبواب السرية يرى محمد الحرز - الكاتب والناقد - بأنه لا بد من المدينة كي تزهر الذاكرة , الشرط الإبداعي الأقوى حين تنهض الذاكرة بوصفها انثيلات وصورا , لا يشدها سوى الرغبة بالأحاسيس التي افتقدناها منذ براءة الطفولة . وكأن الشدّ هو امتياز المبدع , يغذي بصيرته كلما ارتخت عضلات الذاكرة, وغامت الصور في متاهة من النسيان بأثر من الحياة اليومية الاستهلاكية. لا بد من المدينة كي تختبر الحواس. الفضاء الذي تختبر فيه لا ينقاد إليك بسهولة. سوف تظل تجرب طرقا عديدة, ربما تسعفك ذكريات منفلتة من الطفولة, وربما لا تجد طريقك أيضا. محمد الحرز مشيرا إلى أن البحث الدائم عن الأبواب السرية المفضية إلى خبرة الحواس , هو بحث في العمق عن المدينة. لكن بأي معنى يكون البحث؟! لم أدرك يوما ما معنى الحس التراجيدي الذي يسيطر على الشعور لحظة الكتابة الإبداعية إلا حينما وعيت الحقيقة التالية: المدينة التي ترتبط بجسدك , هي غيرها المدينة التي ترتبط بروحك ومشاعرك. وكلما حاولت وصل الواحدة بالأخرى, اصطدمت بصخرة هذا الحس المرعب. هنا تنهض الكتابة بوصفها استثمارا وتوظيفا لإفرازات تلك المحاولة. ولكن هل ثمة فصل بين الاثنين؟ لا ليس ذلك تماما. بل الفصل الذي نعنيه يأتي من كوننا منساقين بالضرورة إلى تصورات خلقناها في أذهاننا عن أماكن , ربما لم تتجاوز المخيلة. أو ربما تكون ذكرى لمدينة عابرة في الحياة أثرت دون أن نشعر بها , وتركت جرحا غائرا في الروح , لا نكتشفه إلا لاحقا مع عالم الكتابة. وهذا الاكتشاف كلما استحوذ على تفكيرنا تكون ملامح المدينة التي نرغب بها قد اكتملت , وظهرت تفاصيلها على سطح الكتابة دون أن نشعر بذلك. خيوط الحس مؤكدا بأنه من هنا تتشكل خيوط الحس التراجيدي بين ما تعيشه جسديا في مدينة أنت لا تنتمي لها روحيا , وبين العكس. وليس بالضرورة المدينة تعني للمبدع هذا الفضاء الواسع فقط. لكنه يعني مجرد بيت أو ذكرى صديق , أو امرأة عابرة في مكان عابر. إن هذه المصادفات الصغيرة في الحياة هي محفزات للحواس وللمخيلة , وهي تكبر معك , وتضرب بقوة للخروج كلما اقترب عالمك الإبداعي منها. والغريب أن المبدعين تكاد تجاربهم تتساوى بهذا الخصوص, وشعورهم بهذه المصادفات التي تعزز موقع المكان في مخيلتهم هو شعور متساوق. لذلك عندما تتأمل خريطة المبدعين العظماء تكتشف على سبيل المثال الموقع المهم للبيت في آدابهم : بيت دوستويفسكي في سانت بطرسبورغ, وأثره العميق على مجمل رواياته. بيت الشاعر لوركا , بيت توماس مان في فيلدافينغ، بيت فرناندو بيسوا في لشبونة، وبيت لورنس داريل في الإسكندرية، وبيت كافافيس في الإسكندرية. ولا ننسى فضاء المقاهي في روايات نجيب محفوظ. إذن نحن مشدودون لتلك العوالم , خصوصا ما يتصل منها بالطفولة , هي الأوقع والأكثر أثرا في حياتنا كمبدعين. موضحا بأننا قد نكتشف عوالم ومدن متعددة في حياتنا كأفراد , وقد تتراكم في ذاكرتنا العديد من الصور التي تنطبع عن هذه المدينة أو تلك . لكنها بالكاد تنبعث مرة أخرى في عالم الكتابة. وما لا يمكن تفسيره في ظني هو أن تتحكم فيك لحظة واحدة تأتيك من عالم الطفولة , وتسد عليك منافذ الحواس جميعها , بحيث لا ترى سواها , وتكون قريبة من يدك وذهنك لحظة الكتابة. هذا هو السر في ارتباط كل منا بمدينته الخاصة. مدن تصيبك بعمى الفهم ويرى عادل الحوشان - كاتب وروائي - بأن حياة الهامش ، حياة التفاصيل الهشّة في الإنسان، طبيعته وظروفه وعلاقاته المتشابكة، الأثر الذي تتركه المواقف المتعددة بكل تنوعها في الحياة البشرية ، هذه صبغة أو صيغة المدينة الرئيسية، التي تبدو في العالم العربي، إن أمكن التعميم، قادرة على تهشيم الفرد وإذابته بعيداً عن توقعاته، عزله تماماً عن حياة متوقّعة فيها من التنوع ما يكفي لعيش "حيوات" كبرى في زمن صغير ومحدّد. موضحا بقوله " بأن المدينة في هذه الحالة هي علبة اسمنت معقّدة وليست مفتوحة، هذه المدن يمكن أن نسميها "مدن النَّدم" التي لا يمكن التفكير بها بشكل حرّ، وأعني التفكير خارجها ، خارج صيغتها. المدن الطارئة التي ترهقك بالعيش أكثر من التفكير. الشارع المعقّد، الشروط القاسية أمام فكرة الحياة، التحول المستمر للأسوأ. مثل هذه المدن تبدو معالمها من الوهلة الأولى غير قادرة سوى على الأخذ منك دون أن تعطيك شيئاً يكفيك للكتابة سوى عن عورة الحياة، واقتراح أحداث لا تتجاوز الخاص لكي لا تصاب بعمى الفهم. تأثيث المكان بالأحداث موضحا بأن هذا يحدث عكس المدن التي تعطيك من حبل السرّة حتى القبر ، حديقة محاطة بالرخام، تعطيك تنوعاً كافياً للتفكير والتأمل والعيش بشجاعة تاريخية. الكاتب في هذه الحالة عليه أن يفكّر أكثر مما يكتب، أعني في حالتنا الأولى، لكي لا يقع في أخطاء احتمالات إعادة صياغة العلاقة بين الأشياء والأحداث ، وكأنها تحدث للمرة الأولى. مبينا بقوله " لا أعرف كيف يمكن تعريف العلاقة المتشابكة بين المخيلة والواقع في ظروف مدنية مثل تلك التي تحيطنا، لكنني متأكد من أن المدينة بهذه الصيغة وهذا النمط إن لم تخنها المخيلة بالأخطاء ففعل الكتابة يصبح فعلا جباراً ومضاعفاً وهو من حظ الكاتب فقط، ولذا فإن العبء الأكبر يكمن في تغذية المخيلة بما يمكن أن يحدث لا بما يحدث. الحل الوحيد في مثل هذه الحالة حين تأخذ المدينة شكلها البدائي المعقّد وحياتها الطارئة هو التنويع على المكان الخاص وتأثيثه بالأحداث، بحيث يمكن الخلاص من الحالة العامة وتعميم الحياة الخاصة على شكل كتابة أو شكل حياة مدنية ما أمكن. المدن كالأفراد ويقول حسن السبع - الكاتب - " نعم.. لبعض المدن سطوتها، أو لِنقُلْ سحرها وجاذبيتها. وقديما عبَّر المتنبي عن علاقة المكان بالإنسان وجدانا وجسدا بقوله: "لكِ يا منازلُ في القلوبِ منازلُ"! وقال أحمد شوقي: "قد يهونُ العمرُ إلا ساعةً/ وتهون الأرضُ إلا موضِعَا"! وكما توجد أماكن أنيقة حالمة دافئة ودودة جاذبة، توجد، بالمقابل، أماكن متجهمة باردة طاردة تتثاءب سأما. قد يقال: إن السأم يكمن في النفوس وليس في الأمكنة، ولي في هذا المعنى نص بعنوان "بقايا أمكنة شاحبة" جاء فيه: "لو عَبَرْنَا حَرِيْرَ المكانِ إلى لحظةٍ من حَرِيْر/ ثم أَزَلْنَا الرَّمادَ الذي تراكمَ في القلب/ صار المكانُ القديم أزْهَى وأنْضَرْ"! أما عمر الخيام فقد أكد في إحدى رباعياته هذا المعنى، ورأى أنه لو توفر له المأكل والمشرب والحبيب في مكان قَفْرٍ، لفاق بذلك عيشة الأباطرة. ومعنى هذا أن الإنسان هو الذي يضيء المكان. +مع ذلك، فإن المدن كالأفراد في الخفة والثقل، والمرح والكآبة، والرقة والجفاف، والصخب والهدوء. والطيش والحكمة. وقد تتحول علاقة الإنسان بالمكان من علاقة انسجام إلى علاقة تنافر أو العكس، وقد تصيب بعض الأماكن بالسأم أكثر الناس تفاؤلا وحيوية ومرحا وحبا للحياة. بناء المدن بروح الفنان مؤكدا بقوله " نعم.. هنالك مدن تسكنها وأخرى تسكنك. وما يميز مدينة عن أخرى هو حضور الجانب الجمالي والترفيهي، وهو عامل رئيس في تشكيل علاقتنا بالمكان. ذلك أن للمكان معماره وملامحه وشخصيته التاريخية، وحين يطغى الجانب النفعي على الجانب الجمالي تفقد المدن ملامحها. لذلك تحتاج المدن إلى مهندسين يتعاملون مع التربة والحجارة والاسمنت والحديد والخشب وبقية مواد البناء الأخرى بروح المهندس الفنان الذي تتحول مواد البناء على يديه إلى مكونات جمالية حية موحية. مشيرا إلى أنه في أحد مقاهي مدينة غرناطة تشكَّلتْ ملامح قصيدته (فلامنكو المحطة الأخيرة)، وكذلك فعل به الحنين فعله في قرطبة وأشبيلية. قال: "لا تَصْطَحِبْ ذاكِرَةً زَاخِرَةً بالضَّجِيجْ.. إن أنتَ سَافرْتَ إلى قُرْطُبة"! لم يمسس أحدٌ أزقة غرناطة وحاراتها القديمة (بمعول التحديث)، بل أصبحت تلك الأزقة والحارات معالم سياحية بارزة لا تكتمل زيارة السائح للأندلس ما لم يعرج عليها. أما فينيسيا أو (البندقية) العريقة العائمة على الماء بأرصفتها القرميدية، وأزقتها المائية، وفوانيسها وزخارفها وجندولاتها، فلا تشبه تلك التجمعات السكنية والتجارية الحديثة النابتة كطفيليات حديقة على مشارف المدينة العريقة. لكن، لا أحد هناك يجرؤ على إضافة ضربة فرشاة واحدة إلى تلك المدينة اللوحة. فلا مجال للتدخل في لوحة أبدعها التاريخ.