هناك قصة رمزية شهيرة للكاتب فرانز كافكا تتحدث عن رجل قروي قرر أن يسافر ليقابل القانون، وعندما وصل وجد بوابة عظيمة يقف أمامها حارس ضخم بشع الملامح، سأله القروي أن يسمح له بالدخول، فأجابه الحارس أن الدخول ممنوع الآن. عاد القروي ليسأله إن كان سيسمح له بالدخول فيما بعد؟. أجابه أن ذلك وارد و لكن عليه الانتظار. جلس القروي أمام البوابة ينتظر دوره لأيام، وتطاولت الأيام لسنوات وهو يقف أمام الحارس مستعطفاً، قدم له كل زاده الذي أتى به من القرية كرشوة ليسمح له بالمرور، لم يكن الحارس يرفض أي شيء، لكنه يكرر في كل مرة قوله (أنا أقبلها فقط مراعاة لمشاعرك كي لا تشعر أنك لم تبذل الجهد الكافي لمحاولة الدخول!). كان القروي يستنكر الأمر في البداية بصوت عال لكن هيبة الحارس جعلت صوته ينخفض مع الأيام حتى تحوّل لهمهات خافتة، ضعف جسمه وخبا ضوء عينيه وهو ينتظر، وعندما حانت ساعة احتضاره وهو مازال ينتظر تجرأ ليسأل الحارس سؤالاً أخيراً بصوته المرتعش، قال له (كل الناس تناضل لكي تصل إلى (القانون)، فكيف يتفق أنه خلال كل هذه السنوات الطويلة، لم يتقدم أحد سواي ليتوسل الدخول؟). سخر الحارس من سؤاله وحرص أن يصرخ في أذنه كي يسمع الإجابة بشكل واضح وهو يحتضر (لا أحد يستطيع الدخول من هذه البوابة، هذه البوابة صنعت لأجلك فقط، وسوف أغلقها الآن!). الرجل المحتضر في القصة هو رمز للضعفاء و البسطاء في أي مجتمع حيث عليهم وحدهم دون غيرهم أن يواجهوا تلك البوابة، البوابة التي تصدهم عن الولوج لعالم المساواة والحقوق، وبقدر تحضر المجتمعات وعدالتها تتضاءل تلك البوابة وتختفي، وبقدر ما تتفشى الديكتاتورية والفساد بقدر ما تتكاثر تلك البوابات وتتعاظم، لكنها تأتي في شكل أكثر عصرية وخداعاً، هي لا تخبرهم مباشرة بأنهم لن يمروا أبداً، فقط تضع لهم تلك الحواجز المستحيلة وتطلب منهم الانتظار، الانتظار إلى الأبد، في حين يعبر المتنفذون من الجهة الأخرى لينالوا كل شيء بلا حساب، بوابة هلامية غير واضحة المعالم تتخذ شكل الأنظمة واللوائح المعقدة حيناً، وشكل الروتين الخانق والقوانين المعطلة حينا آخر، دوامات لا نهاية لها تجعل المرء يدور حول نفسه في سباق عبثي للحصول على العدالة التي ينتهي عمره دون أن ينالها ويموت وهو يعتقد أنه هو المقصر وأن دوره لم يحن بعد لينال ما يريد وأنه لو بذل جهداً أكبر لربما تحصل على بغيته. في حوار تليفزوني مع كاتب عربي ألف رواية تنبأت بالثورة التي حدثت في بلده قال إنه كتبها بعد حادثة شهيرة قام فيها ابن عضو في الحزب الوطني الحاكم يعبث بدراجته البحرية السريعة بدهس شاب فقير قاده حظه التعس للحضور أمامه، وكما هو متوقع ورغم الضغط الإعلامي والغضب الشعبي تمت تغطية القضية وتبرئة الشاب العابث من دم الشاب الفقير. يقول المؤلف أحسست وقتها أن شيئاً كبيراً قد انهار وأننا على وشك شيء كبير قادم. كان الذي انهار هو تلك البوابة العظيمة، ففي لحظة ما يمل الناس الانتظار، تتلاشى هيبة الحارس والبوابة والقانون ذاته، فجأة يقررون تحطيمها والتنكيل بالحارس واقتحام ساحة العدالة التي حرموا منها لسنوات كي ينالوها بأنفسهم.