قبل الاستفاضة في تبرير حذر الأميركيين وخوفهم منا، أتذكر أن المكان المقصود هو سفارة البلد لا البلد ذاته. إذاً، لمَ الإكثار من التبرير؟ استهدافهم على أرضنا متّصل بوجودهم ودورهم في تلك الفترة... وهم لم يُستهدفوا على أرضهم. قد يبدو هذا التساؤل ساذجاً إلا أنني لا أنفر من منطقه. لم تكن الزيارة بهدف التعارف، فلا "محكى" لي مع "الأميركان"، بل كانت زيارة مصلحة فحسب. تلقيت رسالة عبر بريدي من السفارة الأميركية حول ورشة عمل ودراسة في الولاياتالمتحدة. مدتها خمسة أسابيع، جميع التكاليف مدفوعة، من تذكرة السفر والتنقلات إلى الأكل والشرب. "آكل شارب نائم، لا تتعرف على شيء"... املأ الاستمارة وأنتظر. يأتي الرد: المقابلة يوم الأربعاء الساعة الثالثة بعد الظهر. أحضر هويتك معك. أصل إلى مقر السفارة الساعة الثانية والنصف. أتردد في الدخول. لا أريد أن يعتبروني مستميتاً في الحصول على "المنحة". ولا أريد أن أفسح المجال أمامهم لممارسة براعتهم في "إذلال" المنتظرين على الأبواب. أطلب فنجان قهوة وأشعل سيجارةً لتمرير الوقت. أسأل أحد عمال مرآب السيارات عن الإجراءات داخل السفارة. فيخبرني بأنها متشددة أكثر من السفارات الأخرى. لا أتعجب من ذلك، إنها السفارة الأميركية، وقد تعرضت للتفجير مرتين. لذلك لا بد تفهم خوفهم الدائم من التهديدات الأمنية، وهي أمور تدفعهم إلى التشدد أكثر من غيرهم. قبل الاستفاضة في تبرير حذرهم وخوفهم، أتذكر أن المكان المقصود هو سفارة البلد لا البلد ذاته. إذاً، لمَ الإكثار من تبرير خوفهم وحذرهم منا؟ استهدافهم على أرضنا متّصل بوجودهم ودورهم في تلك الفترة... وهم لم يُستهدفوا على أرضهم. قد يبدو هذا التساؤل ساذجاً إلا أنني لا أنفر من منطقه. أتذكر للحظة مقاطِع من "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء" لفرانتز فانون، حول تلك العقدة الدونية تجاه الرجل "الأبيض" ومحاولة الرجل "الأسود" تقليده في سلوكياته والتخلي عن الثقافة الأصلية واعتناق ثقافة البلد المستعمِر، نتيجة لعقدة نقص زُرعت ورسخت في ذهنه. وفي حالتي، وعلى رغم الفارق في المقاربة، أشعر بعقدة النقص بسبب محاولتي إيجاد تبريرات لخوف الرجل "الأبيض" منا. الساعة 2:45، أعبر البوابة الرئيسية. حارس لبناني تابع للسفارة يقف بكامل عتاده متأهباً عند المدخل. يصرخ بصوت آمر، قف! أشعر بهيبة المكان. يسألني عن سبب الزيارة وعن محتويات الحقيبة وحقيبة الكومبيوتر المحمول. أجيبه باقتضاب وتلعثم واضح: لدي مقابلة... كتب... دفاتر. ترتسم على وجهه بسمة استهزاء نتيجة ارتباكي. أغضب من معاملته من دون إظهار ذلك. رشاشه الحربي يرسم في مخيلتي سيناريوهاتٍ "سمجة" لما يمكنه أن يفعل إذا غضبت. يطلب مني إرجاع الكومبيوتر المحمول لما قد يسبب لي من إجراءاتٍ إضافية داخل السفارة. أقبل فوراً إذ تذكرتُ أن في حقيبتي اللوحة المعدنية لدراجتي النارية، احتفظت بها بعد استبدالها بواحدة جديدة. أعود بعد التخلص من الحمل الثقيل وأدخل السفارة. الاستجواب يتجدد ويعود معه الارتباك. كائن من كان الداخل إلى السفارة يشعر بأنه "مشتبه به". انتهي من مرحلة التفتيش الأولى، و"أتأهل" للمرحلة الثانية. الأنفاس محبوسة، أصل إلى الحارس الثاني، المتأهب أيضاً، وأفكر في ضرب التحية احتياطاً. يطلب مني أن أضع الحقيبة في الكاشف المعدني، الأعصاب مشدودة: نسيتُ لوحة معدنية في حقيبتي فما يمنع أن أكون نسيت مطرقة أو مفك براغٍ. أنسى نفسي والحارس للحظات... سيقبضون علي! (لبناني يدس أغراضاً مشبوهة في حرم السفارة الأميركية بعوكر). أصوغ الخبر وعنوانه في رأسي. وفي خضم هذا الهذيان، أسمع الحارس الأول يصرخ للحارس الثاني سائلاً: "زبطت وصلة البلاي ستايشن؟" (!!!!) استعيد أنفاسي. أعصابي ترتخي. والمكان بكل أجهزة المراقبة المتطورة وأسلحته وحراسه يفقد هيبته، دُفعة واحدة. فكل ما كان يجول في رأس الحارس وزميله هو الانتهاء من الدوام ليعودا إلى بيتيهما ويلعبا! استغل هذه اللحظة لأدخل على خط المحادثة وأكسب "ثقتهم" وأعرض خبراتي في هذا الشأن، مع أن معرفتي بهذه الألعاب لا تتعدى التنقير على أزرار المسْكة. أتجاوز كل مراحل التفتيش المتطابقة بنجاح، ويُطلب مني الانتظار في غرفة الزوار. لا يتعدى حجم الغرفة حجم زنزانة انفرادية. فأستعيد الإحساس بأنني "مشتبه به". لكن هذه المرة الخوف يزول. اللعبة أصبحت مكشوفة. كل ما في الأمر، أن على الشخص الداخل أن يقتنع بأنه يشكل خطراً على المكان وعلى قاطنيه. الإجراءات كلها ليست من باب الاحتراز، فما الحاجة إلى المرور بثلاث نقاط تفتيش تتبع الأساليب ذاتها. أشعر أن الهدف هو ترسيخ صورتهم النمطية في نفوسنا: "أنتم خطرٌ علينا أينما كنا". حائط الغرفة مليءٌ بالملصقات الدعائية للسفارة ومشاريعها التنموية في لبنان، تحت شعار "من الشعب الأميركي إلى الشعب اللبناني"، وعناوين من قبيل "عمال يعيدون بناء جسر المديرج المدمر الذي يصل مناطق لبنان الشرقية ببيروت"، و"عمال يرممون مدارس مهدمة لتستوعب أكثر من 7000 طالب"... ولا ذكر للجهة التي تسببت بالتدمير، لعل مساحة الملصق لم تتسع لها! في الجهة الأخرى من الغرفة، ملصق كبير بأسماء كل الجنود الأميركيين الذين قضوا في لبنان، عنوان الملصق "أتوا بسلام"، ربما للإشراف على إعادة إعمار ما تهدم... لا أحد يدري. أجول بنظري على ما تبقى من الغرفة الصغيرة، هدايا ميلادية "من مكتب الوزير والنائب إلى سعادة السفيرة، وإلى سعادة الملحق العسكري"، مرمية على الأرض عليها إشارة "للتفتيش". النواب والوزراء يرمون القوانين في الأدراج، والأميركيون يرمون الهدايا على الأرض. للمرة الأولى أشعر بالعدالة الغربية! يحين موعد المقابلة عند الثالثة وخمس دقائق. الأميركيون دقيقون في مواعيدهم. يستقبلني المسؤول بلطف ولباقة. أستغرب التغير المفاجئ في المعاملة. لعله مكافأة على اجتياز الامتحانات التفتيشية بامتياز. أدخل إلى غرفة المقابلة، ويأتي السؤال كالصاعقة: "لماذا تريد زيارة الولاياتالمتحدة؟" شعرتُ أنه يسألني لماذا أريد زيارة هذا البلد... بعد كل تلك المعاملة. أتردد في الإجابة. ثم أقول له كل ما يريد أن يسمعه عن عظمة بلاده. يبتسم ويشكرني على وقتي. أخرج من المقابلة مطأطأ الرأس. كل انطباعاتي وانتقاداتي وسخريتي منهم سقطت حين أعطيته هذا الجواب. أردتُ العودة وتغيير الإجابة إلى النحو التالي: "ربما لن نخرج من سجنكم لنا إلا بعد زيارة السجن ذاته. لكن الأميركيين لا يعطون فرصةً ثانية.