تنفتح الصحراء لآخر مداها ، سراب ووحشة ، وريح تحمل الرمل أحيانا ستارة من غبار ، وأحيانا أخرى تأتي بهذا الصوت الغامض للعزلة يرجف القلب ، والحصن قائم هناك مثل حيوان خرافي ، أو اثر من زمن قديم ، حصن يشبه الفناء، لا يملك ردا لأبدية !! يقع هناك في ركوده ، وعدميته كأسطورة مشتقة من صمت الصحراء ، والشمس تأتي بالنهار ، والقمر يأتي بالليل فتتولد منهما المواسم والفصول والمطر والريح ، ثم تنقضي السنين !! من نقطة البدء هذه كان على الضابط "جوفاني دروجو" الذي عاش رواية "صحراء التتار" التي أبدعها الايطالي "دينوابو تزاني" وجعلها في متن الرواية الإنسانية علامة مميزة من حيث فضائها والمعنى والشكل ، كان على هذا الضابط أن يقضي سنيئة هناك باختياره كي يواجه قدره !! نشرت الرواية في العام 1940 ، واعتبرها البعض من منجزات الحداثة حيث تناول فيها بوتزاني العلاقة بين الأبدية وبين الأنا والزمن ، ومن ثم العلاقة مع الموت !! مضمون الرواية ومعناها. وبالرغم من التأثير الفني ذلك الحين لروايات مثل أوليس أو الصخب والعنف إلا أن صحراء التتار تنتمي لما اكتشفه بوتزاني من معنى ، وقدمه فراتر كافكا العظيم في أعماله المبهرة ذلك الحين تتقاطع شخصية الضابط دروجو مع شخصيات من عالم كافكا ، ويقوم تكوينها الروحي والنفسى على محاور: لعنة العزلة ، والهروب من المواجهة ، تلك العزلة التي كان يمارسها روسمان بطل كافكا الأثير . قضاء حياة حتى نهايتها في حصن بعيد في الصحراء لمواجهة ذلك المجهول الذي لا يأتي ، وان كانت تأتي نهايات الأشياء في حضوره. تبدو الرواية في عبثيتها شبيهة بعبث المسخ والقضية والكثير من قصص كافكا القصيرة. ينتقل الضابط "جوفاني دروجو" من مدينة حضارية ، تعيش حداثتها ، ومنجزها الإنساني في العلم وطرق العيش والاستمتاع بفنون الحضارة ، والمرأة إلا أن ذلك الضابط يطلب نقله إلى حصن منعزل يطلقون عليه "باستياني" ليقوم بحراسة الحصن ، ومراقبة الحدود دفاعا عن بلاد الشمال ، ومواجهة ذلك العدو المجهول تماماً ، والذي بلا ملامح ، أو دوافع ، والذي سوف تأتي مع مرور الأيام جحافله تثير المخاوف ، ونفرة الرمال ، قادمة من غير موعد أو اشارة. تنقضي السنوات والضابط في سعيه نحو الاستمرار تضرب وجهه السنين ويغزو الشيب رأسه والعين في استمرارها محدقة علي الصحراء في انتظار مجيء من لا يجيء .. هي شيخوخة من غير ادراك ، وزمن يمضي في انتظار العدو يغيب رفقاء الحصن أحيانا ، نحن لا نعرف أين يذهبون. وثلاثون من السنين تمر على جيوفاني في حصنه ، يقف على سوره منتظرا بذلك الصبر الرواقي مجيء ذلك المجهول وحين يأتي يوما يكون الضابط راقدا تحت السور يهذي بالمجاز ، ويتلو على روحه أغنية الرحيل ، ويتجسد ذلك المنتظر الذي يأتي في شكل العدو راكضا عبر الصحراء راكبا جياده التي لعدوها صوت الطبول. نص ببنائه الفني ، ولغته الشعرية الآسرة ، والمعنى الذي يسعى لتحقيقه ، واستحضاره للمكان المنعزل ، والوحدة المفروضة ، ثم الرحيل بعد نفاد العمر ، كل تلك المعاني قدمت سؤالا باهرا عن العلاقة بين الحياة والموت ، وجسدت صوت ركض الجياد الزاحفة مثل العدم!!