يقول التفكير المسيطر على المجتمع، إن الأخطاء الطبية يمكن التحكم فيها بقرار سياسي أو بميزانية كبيرة أو باستقالة مسؤول أو حتى بشنق آخر طبيب بأمعاء آخر ممرض !. هذا (الخطأ المركب) متأثر كثيرا بطرق المعالجة الأخرى ذات البعد الريعي، الذي يغفل طبائع الأشياء، ويستسلم للكسل الفكري، ويتقن الهروب إلى الأمام. في هذا الموضوع الممتد سأتحدث عما يجري في أروقة الهيئة الصحية الشرعية كعضو فيها منذ أربع سنوات، ولن يكون المقال عن تنظيم الهيئة أو المؤاخذات الإجرائية عليها، بل عن محاولة فهم الكواليس الخلفية للوعي العام، وللأداء المهني، وما يتعلق بهما في سياق الصحة والمرض، وسيتجه الموضوع لنقد المجتمع كمستفيد من الخدمة، ونقد مقدمي الخدمة، ثم نقد الإعلام والصحافة ودورهما حيال الأمر، كل ذلك من واقع ما دار وما يدور في قاعة المحاكمات الطبية. يعاني المجتمع من إشكالات تتعلق (بثقافة التقاضي الطبي) وهذه الإشكالات تعكس الخلل الكامن في ثنايا الوعي والممارسة من كافة الأطراف. أولى هذه الإشكالات ما يتعلق (بتحرير الدعوى) فتجد كثيرا من الناس يقدم شكوى بناء على مآل غير متوقع لمريضه، وعند سؤاله عن فحوى الشكوى، وأين الخلل؟ ومن المدعى عليه؟ تجد ارتباكا كثيرا ينبئ عن خلل آخر مستقر في العلاقة بين مقدم الخدمة والمستفيد منها. هذا الخلل في العلاقة بين الطرفين يمكن التعبير عنه بسوء التواصل بين الطبيب والمريض في أبسط صوره، وهو متعلق بثقافة الحقوق. يعاني واقع الخدمة الطبية من خلل خطير في مفهوم حق المريض وحق الطبيب، فتجد مريضا تجرى له عملية، ولا يعرف اسم الطبيب، فضلا عن تأهيله، فضلا عن تفاصيل العملية والخطورة المحتملة. يغفل المجتمع كثيرا فكرة (الشراكة) في القرار الطبي، والأمر هنا لا علاقة له بالثقة، بل هي حالة تعبر عن الجهل بقانون الممارسة الطبية الحديثة. ومن إشكالات التقاضي الطبي (المنطلق العاطفي للشكوى)، والمقصود بالعاطفة هنا أن الشكوى تصبح ردة فعل واعتراض لا على مضاعفة أو ممارسة خاطئة بل على بيئة الخدمة المحيطة، ولهذا صورتان إحداهما تتعلق بالكرامة الشخصية، والثانية بالاهتمام والرعاية. وسأبدأ من الثانية، فقد قدم أحدهم شكوى لمظنة خطأ طبي، وقد تناوب على المريض فريقان من تخصصين مختلفين، وكان الخطأ ظاهرا ضد أحدهما لكنه ادعى فقط ضد الفريق الذي لم يخطئ، وذلك لأن الفريق كان على تواصل جيد معه، وقام باحتوائه على العكس من الفريق الآخر الذي لم يقدم اهتماما ملائما، ولما كانت نتيجة الحكم على غير ما يتمنى، ولوقوعه في أسر البعد العاطفي لم يستطع إدراك ما يحصل بطريقة صحيحة. إن واحدة من أسباب تضخيم الأخطاء الطبية والشعور المتزايد بحصولها -حتى لو لم تكن كذلك- هو جو الخدمة والاهتمام، فإن الناس (تسكت) على ضعف الخدمة على أمل نهاية سعيدة، ومتى حصل العكس فإن الذاكرة السيئة تبعث من جديد وللموضوع صلة.