عُرفت المدينة بأنها مبوّأ الأنصار، أي: سكن الأنصار، حيث اتخذوا مدينة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فابتنوها منازل وأصبحت وطناً لهم، ويعبّر عن كلمة الوطن المبوّأ، وأثبت الله لهم الإيمان به -سبحانه وتعالى- وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وكذا من هاجر إليها اتخذوها مباءة (أي: سكناً ووطناً) مع إخوانهم الأنصار، فتمكنوا منها تمكناً شديداً، دخل حبّها القلوب التي آمنت بالله وبرسوله. والتبوؤ في الأصل إنما يكون للمكان، حيث يقال: تبوأ القوم المكان، أي: توطنوه وجعلوه سكناً ووطناً، ولكن الله تعالى جعل الإيمان مثله لتمكّنهم فيه، وأصبح الإيمان مقترناً بالمدينة لأنه انتشر منها ومصيره إليها، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها) متفق عليه. وتعددت الإضافة إلى أسماء الدار كاسم من أسماء المدينة مثل دار الفتح، دار الهجرة، دار أرض الهجرة، دار الأبرار، ودار الأخيار، ودار الإيمان، ودار السنة، قال تعالى (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا… الآية)، لذا فإن المدينة النبوية هي الدار والإيمان، وتعطي هاتان الصفتان (الدار والإيمان) منزلة عالية لمن سكن المدينة، فقد رُوي أن عمر -رضي الله عنه- سمع مقالة في منى من بعض الجهلة في أمر الخلافة فكرهها، فأراد أن يخطب الناس يحذرهم من مقالة هؤلاء الجهلة، فقال عبدالرحمن رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، لا تفعلْ، فإن الموسم يجمعُ رعاعَ الناس وغوغاءَهُمْ، فإنهم هم الذين يغلِبُون على قربِك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيِّرُها عنك كل مطيَّر، وأن لا يعُوها، وأنْ لا يضعُوها على مواضعها، فأمهِلْ حتَّى تقدمَ المدينةَ، فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلُصَ بأهلِ الفقةِ وأشرافِ الناس، فتقول ما قلتَ متمكّناً، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعونَها على مواضعها، فقال عمرُ: أما والله إن شاء الله لأقومنَّ بذلك أول مقام أقومُهُ بالمدينة. رواه البخاري، ويظهر من رواية عبدالرحمن بن عوف -رضي الله عنه- لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب منزلة أهل المدينة، حيث وصفهم ب(أهل الفقه وأشراف الناس)، وما ذلك إلا لمجاورتهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتحقيق ما تتطلبه المجاورة ومراعاة شرف المكان والمكانة.