سألني الصباح عن لون ثوب أمي عن صوت القرآن... عن رائحة قهوة أمي... فقلت له سيصيبك الحرمان كما أصابني... فأمي قد ماتت!!!... ها هو شهر رمضان يهل من جديد... ولم يجدك يا أماه.... ككل الأشياء التي تبدأ من جديد.... لم يكن يحمل نفس يوم مجيئه حين أسمع بأن الغد أول من شهر الخير وأهرول راكضاً إليك لأبشرك به... لم يعد ذلك الشهر الذي يحمل ذكريات طفولتي ويفتح كل حواسي لأرفع يدي إلى الله أدعوه بكل شيء. ها هو يأتي من جديد بدونك يا أماه، فقبل سنوات، فرحت به لأنك كنت في داري، ترفعين صوت ذكرالله عالياً ، لنجتمع سوياً، نردد معك الدعاء، ونفطر على تمرة تنيرها رؤية وجهك يا أماه... ها هو يأتي من جديد يحمل دمعة ذكرى لأنقى اسم، ويسرق فرحة بياضي بل آهة تبزغ من أعماقي من ألم الفقد... ها أنا ذا يا أماه ومنذ ذلك اليوم الذي رحلت فيه وحتى لحظتي هذه - التي أدون فيها هذه الأحرف - وأنا أدرب نفسي على ابتلاع الحزن جرعة جرعة كدواء مر كي لا أموت من الألم، فذلك الفقد الذي يملأ روحي لا أجد شيئاً يعبئه يا أماه من بعدك، لم يعد هناك مجال للفرح، كل الأشياء اختلفت حتى تمرة الإفطار!!!.. لم يعد هناك شيء سليم، كل الأشياء نخرها الوجع وتركها تتساقط تحت أدمعي، فهذا الليل يأتي بصعوبة ليسكن أماكني التي مر عليها من قبل النهار ولم تتحرك، وها هي الذاكرة لا تزال تسقي عيني بنظراتك التي فقدتها، حتى رائحة القهوة صارت توجعني لأنها ليست من يديك، ولأني لا أملك شيئاً سوى تعليق نظراتي للسماء ألجأ إلى البكاء لأني أحتاج إلى هذا البكاء لأتنفس وأعبر عن فقدي وليته بعد كل هذا يخفف عني!!!... بكيتك كثيرا، وكأن عيوني خلقت لأجل البكاء، ولا زال الألم يسحقني وسهام الشوق تحترقني، فأشتاق لك وكلما تذكرت أن الأموات لا يعودون تمنيت يا أماه أن لا أعود من زيارة قبرك ظهر كل يوم جمعة!!!... أماه.. تصوري حدة الألم حين أشتاق إلى عودتك المستحيلة، وأعود لأزرع في قلبي مرة أخرى أشجاراً ظليلة من الشوق لعودتك وأنت هناك.. تحت الثرى.. ولن تعودي!!!.. كل الطرقات بدأت مقفرة رغم الجموع، خرجت من داري الذي لم يعد يحتضن جسدك، ولم يكن يهمني أن أعود أو لا أعود، فليس هناك في داري من يغري خطواتي بأن تعود من بعدك يا أماه، أجد وجهك يا أماه يبتسم أمامي، في آفاقي وأحلامي، أجدك بجاني رغم خلو مكانك، وأمني نفسي بأنك موجودة في قلبي مهما توالت سنين غيابك، ففي حنانك يا أماه ما يكفيني أن أعيش أو أمارس العيش، لحين يأتي أمر خالفي ويهال علي التراب، فأنا لا أخاف الموت لأنه في يوم من الأيام قد جاء إليك، ولم يعد يخيفني أبداً، فالموت يا أماه قد أخذ أبي ذات يوم، وجاء ليأخذ روحك، فإلى أي مدى ممكن أخاف منه، وقد أخذ أغلى روحين لي في الحياة، أعيش ليالي رمضان المبارك بك، إصلي التراويح ! وحين انتهي من صلاتي، أٍقف عند باب مصلى النساء، لأساعدك يا أماه في نزول درجات الدرج، وحين تخلو عتبة مصلى النساء من الخطوات، أعود حزيناً لأني أدرك أنني لا زلت أحلم ببقائك يا أماه،، أرجع إلى داري منكسراً حين لم أجدك بجانبي، أخبئ رأسي بين يدي، وأدس جسدي في فراشي دون أن أبدل ملابسي المبتلة، أشعر بكم هائل من الاحتياج الذي لا يستوعبه سواك، ويأس وخيبات لا يرتقها سوى حضنك، أتشرب هم الوحدة التي عشقتني بحدة حين غبت، وانتطرك تأتين إلي وتقبلين خدي كما كنت تفعلين، وأشهق الاحتياج كجنين سقط للتو من رحم أم موجوعة، لطفك يا الله، وأضع يدي على قلبي المتعب وأبكي، وحين يأتيني صوت أبنائي أحسدهم يا أمي لأن لديهم أماً حفظها الله لهم!!!... أماه.. في مناخ الحزن الذي يحوطني من كل اتجاه، وفي وجوه أطفالي، وفي السوار الذي يزين معصم طفلتي والتي سميتها على اسمك وأهديتها أنت ذلك السوار أجدك يا أماه، لا تغيبين عن نفس وروح ابنك الذي اقتسمت معه الدار وعطرته بأنفاسك الطاهرة، لا تغيبين ككل الأرواح الطيبة البيضاء، لا تغيبين كأطهر روح وأنقى قلب وأندى يد وأدفأ جسد، وأقسى غياب وأوجع فقد.... أماه... ليست في أجندة أيامي من بعدك أسطر تحكي مواعيد الفرح.. وليس في أطعمة الرزق من يحمل طعم السكر... ها هو شهر رمضان يوشك أن يودعنا يا أماه، كم ودعنا ذات سماء ودعنا بوداعه جسدك الطاهر يا أماه تحت الثرى، أحرفي تتكون على ورقتي كجمر لفظه قلبي، ها هو المساء يا أمي يعبر الأرض كئيباً موحشاً كما كانت سمة النهار الجاف، يأتي المساء ليجد دمعتي كما تركتها ليلة البارحة وأنا أغرق في وحدتي ولا أجد سوى اللاشيء!!... ثلاثون عاماً يا أمي كيف أبكيها يوماً يوماً؟!!!... ثلاثون عاماً يا أمي عشناها معاً فكيف أنساها؟!!!... وكيف للحياة القدرة على شطب تلك السنين بممحاة النسيان؟!!!... كم لحظة في عمر الثلاثين عاماً عشنا سعادتها؟!!!... وكيف لتلك اللحظات أن تذوب بين عشية ضحاها؟!!!... وها أنا الآن أطوي كل المسافات التي تفصلني عنك، أتحول إلى عاصفة تكنس كل ذرات التراب التي تحجبك عني لأراك، وأرى وجهك واحتضنك، وأبكي على صدرك حرقة رحيلك، وأتوسل لك أن لا تغيبي مرة أخرى عني، لأفيق على دموعي التي جاءت مع فجر يوم لتنفذ من عيني التي تركتها مفتوحة تبحث عن وجهك الطاهر يا أماه... لم أغادر غرفتي سوى للصلاة فقط، أجلس كما أنا، لا أريد أن أكلم أحداً أو أن يكلمني أحد، فلا شيء هنا في غرفتي الباهتة الضوء يبعث على الحياة، لم أكن حينها قادراً على فعل شيء سوى مراقبة تلك الدمعةالتي سقطت على ساعدي، تأملتها طويلاً خلف غشاوة الدمعة الثانية، ارتبك نظري، أصبحت أرى وجهك في دمعتي الساقطة للتو على ساعدي، لتغشى نظري مرة أخرى دمعة تحاول أن تفتر من سجن أهدابي لتتحرر من ألمي.... دائماً يا أماه، أحلم بأنك بجانبي تضعين ذلك الوعاء الصغير المملوء بالماء لنغسل سوياً حبات التمر ونلتهمها يا أماه كعادتنا بعد أن نعود من صلاة التراويح، لأجد حبة التمرة تعبر فمي وكأنها العلقم بدونك يا أماه. افتقدتك يا أماه كثيراً، انحبست شكوتى في عيني، وشاع صراخ الفقد في صمتي، أحتاج العمر كلة لأبكي خلف رحيلك، واحتاج لوحدتي لأن رسمك يأتي خلف سواد الظلام كحلم يأبى أن يتحقق، أحبك يا أماه كثيراً، أحبك بحجم قلبك الحاني، وبحجم الطمأنينة التي أعيشها حين كنت يا أماه بجانبي... وداعاً يا أماه.. سأسأل الصباح عنك كل يوم قبل أن يسألني يا أماه....