تنطلق في العاصمة المقدسة، بعد غد، فعاليات النسخة الرابعة من (مؤتمر مكةالمكرمة الرابع للدراسات الإسلامية ودورها في خدمة الإنسانية)، ضمن الجهود العلمية الحديثة لمواكبة قضايا العصر، وتعزيز جهود الأئمة والدعاة في نشر الدعوة الإسلامية، حيث يناقش المؤتمر كيفية تحفيز طاقات العلماء والباحثين للحد من حالات الضعف والتراجع التي تشهدها الدراسات الإسلامية، وتوجيه البحث العلمي نحو تطبيق مقاصد الشريعة لتطوير واقع الأمة، واستشراف رؤية إسلامية أصيلة للقضايا الإسلامية، تستلهم روح العصر وتستصحب التحديات الهائلة التي تواجه الأمة وكيفية مواجهتها. ويشتمل المؤتمر على العديد من الجلسات العلمية والملصقات العلمية وورش العمل التدريبية التي يقدمها باحثون ومختصون من أعضاء هيئة التدريس بالجامعات الحكومية والأهلية بالعالم العربي والإسلامي ودعاة وأئمة وعلماء وطلاب دراسات عليا. ويستمد المؤتمر أهميته الكبيرة من كونه يأتي في منعطف تاريخي بالغ الأهمية تمر به الأمة الإسلامية، لا سيما في ظل التراجع الحاد الذي تشهده في كثير من المجالات العلمية، وحالة التشظي والخلاف بين المدارس الفقهية والتي أنتجت حالة من عدم اليقين أمام المسلم العادي. ومن أبرز ملامح قوة المؤتمر أنه يناقش قضية بالغة الأهمية تؤرق بال الكثيرين، وهي فتح آفاق للاجتهاد والتجديد في العلوم الإسلامية بمختلف مجالاتها، ووضع الحلول لكثير من المشكلات التي يعاني منها العالم الإسلامي والمجتمعات الإنسانية الأخرى. فعالمنا المعاصر يشهد ظهور كثير من المحدثات التي لم يكن للعلماء السابقين عهد بها، لذلك فإن هناك حاجة للتوسع فيما يسميه العلماء «فقه النوازل» الذي يدعو لإيجاد معالجات إسلامية مناسبة للمستجدات التي تطرأ على حياة الناس. ولا سبيل لتحقيق ذلك إلا بإثراء البحث العلمي واستثمار مخرجاته لمعالجة واقع المسلمين لمواكبة قضايا العصر. ولأن الإسلام هو الدين السماوي الوحيد الذي يمتاز بصلاحيته لكل زمان ومكان، وذلك من واقع مرونته الكبيرة، فهو يدعو لتنمية الإنسان وتحسين مستوى وظروف عيشه ويفتح أمامه أبواب المستقبل. لذلك فقد اعتنى بصيانة الكرامة الإنسانية والقيم المشتركة كالعدل والسلام والحرية والمساواة والبِر ومكارم الأخلاق بشكل عام. لذلك دعا إلى تعزيز التعاون الذي يحقق خير الإنسانية أجمع. فما أحوجنا في هذا العصر إلى إعادة تفعيل نصوص الوحي وتطبيقها في واقعنا الحالي حتى نستطيع السير وفق خطة ربانية واضحة المعالم تغنينا عن اجتهادات بشرية قد تخطئ وقد تصيب. وقد حاول كثير من العلماء والمُفكرين الإسهام في هذا الجانب عبر مبادرات واجتهادات شخصية، وكعادة أي فعل بشري فإن هناك من أصاب ومنهم من أخطأ وكلاهما مأجور ما دام قد ابتغى وجه الله. لكننا في حاجة ماسة إلى فعل جماعي منظّم يتبنى أسلوب التفكير بصوت مسموع وعصف ذهني يدلي فيه كل مختص بدلوه حتى نصل في النهاية إلى نتيجة مرضية تلبي التطلعات وتحقق المقاصد. ولأن الإسلام هو الدين الجامع الذي يحمل في طياته كل عناصر الثراء الفقهي فقد احتوت كثير من آيات القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة على تقدير كبير للعلماء ودعوات واضحة للاجتهاد وإثراء المجال العلمي وفق ثوابت واضحة. لكن رغم ذلك نشهد للأسف تراجعا في مجال الدراسات الإسلامية التي ينبغي أن توحد قلوب أهل القبلة الواضحة. واستلزم هذا الوضع من بعض الغيورين التفكير في إيجاد منصة مشتركة مثل هذا المؤتمر لتحفيز طاقات العلماء والباحثين لمواجهة حالات الضعف والتراجع التي تشهدها الدراسات الإسلامية، وتوظيف البحث العلمي للاستفادة من مقاصد الشريعة في تطوير واقع الأمة، واستشراف رؤية إسلامية أصيلة للقضايا الإسلامية المعاصرة. كما يهدف المؤتمر إلى عرض أحدث الأبحاث العلمية في مجال الدراسات الإسلامية، والاستفادة من التجارب الناجحة في مواجهة المشكلات والتحديات الفكرية. وتسليط الضوء على المعاني والقيم الإنسانية في الإسلام. كذلك فإن المؤتمر يحقق مكسبا في غاية الأهمية هو أنه يوفر فرصة لا تقدر بثمن لعلماء بارزين من مختلف أنحاء العالم الإسلامي للاجتماع والتلاقي لتدارس الأوضاع الحالية وتبادل وجهات النظر حول القضايا العاجلة التي نشهدها في هذا العصر المتسارع، والذي تطفو على السطح فيه الكثير من المتغيرات بصورة شبه يومية. وربما يقلل البعض من قيمة الدراسات والجوانب العلمية بوصفها ترفا تحتاج الأمة بدلا عنه إلى خطوات عملية ملموسة، وهذا تصوّر خاطئ تماما وعلى جانب كبير من الخطورة، فالفكر هو أساس أي نهضة واللبنة الأساسية لعمليات التطور والنماء. لذلك فإن أول آية نزلت في القرآن الكريم هي (اقرأ باسم ربك الذي خلق). كما يقول الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام (العلماء ورثة الأنبياء). وحتى تكتمل الفائدة القصوى من جهود العلماء ومناقشاتهم، فإنه من الضرورة أن نبحث عن كيفية الاستفادة من الجهود التي تبذل في مثل هذه المؤتمرات وإنزالها على أرض الواقع وتطبيقها في حياة الناس حتى لا تتحول إلى مجرد أرشيف، وحتى لا تصبح مثل هذه اللقاءات نوعا من الحوار النخبوي الذي يدور بين الصفوة في قاعات مغلقة. لذلك أقترح أن تصدر مثل هذه اللقاءات العلمية المرموقة، إضافة إلى بياناتها الختامية آليات واضحة عن كيفية تحويل مخرجاتها إلى خريطة عمل تلامس واقع الناس وتناقش مشكلاتهم بطريقة عملية، إضافة إلى تبسيط المخرجات وصياغتها بلغة مفهومة لدى المتلقي العادي. ختاما، فإن المملكة تثبت مرة أخرى علو كعبها في المسارعة إلى إيجاد حلول عملية لمشكلات الأمة عبر المبادرة بعقد مثل هذه المؤتمرات المرموقة، وترحيبها باجتماع صفوة الأمة وعلمائها ومفكريها، حيث دأبت على احتضانهم بكل أريحية وكرم.