لن أتحدثَ بمثاليةٍ عاليةٍ وأبديَ استغراباً من تراجعِ السعوديةِ تسعة مراكز في مؤشرِ مكافحةِ الفسادِ عالمياً، لأنه تزامن مع إنشاءِ الهيئةِ الوطنيةِ لمكافحةِ الفساد، فإنه لا يكفي في مكافحةِ الفسادِ أن تقولَ للناسِ: لا تكونوا فاسدين، أو تبينَ لهم أن الفسادَ حرامٌ شرعاً، كما أنَّ هناك فرقاً بين إرادةِ الشيء وإدارةِ الشيء، فقد تكون مخلصاً وتتمنى من صميمِ قلبك النجاح في عمل ما، لكنك مع ذلك تخفقُ بسببِ إدارتِك، وفي نظري أن هيئةَ مكافحةِ الفسادِ ليست لديها رؤيةً واضحةً ولا خطةً علميةً قائمة على أساسِ من الدراساتِ والبحوثِ والنظرياتِ في شتى المجالات، فأنت لا يمكنك أن تكافحَ الفسادَ بتبيانِ صورِه وأشكالِه فقط، أو حتى بتحديدِ الخطوطِ الفاصلةِ بين ما هو داخل فيه وما هو خارج عنه، إنما تحتاجُ إلى علماء في الاجتماعِ وعلمِ النفسِ أيضاً، لمعرفةِ خصائصِ المجتمعِ وتحديدِ ما يعزِّزُه في الأفرادِ وما يرفضُه، ولابد من معرفةِ طبائعِ النفسِ البشريةِ وما يعتريها من الرغباتِ والشهوات، وليس بمقدورِك مكافحةُ الفسادِ من غيرِ أن تحددَ أسبابَه وجذورَه والأشياءَ التي تغذيه، مثل أن تطالبَ الناسَ بالجدِّ والاجتهاد بينما هم يرون الوظائفَ تذهبُ لمن لديه (واسطة)، أو تطالبهم بالنزاهةِ بينما هم يرون أن أسبابَ الثراءِ لا تقومُ على أساسٍ منطقي، فحامل الدكتوراة يموتُ منتحراً وحامل (البشت) يموت تخمةً! إنني أعتقدُ أنه ليس من المناسبِ أن نتوقفَ عند هذا التصنيفِ طويلاً ونبررَه على سبيلِ الإنكارِ لا المراجعة، أو نتهم الآخرين بالتحاملِ علينا والتآمرِ ضدنا، ولا مانعَ من أن تخطرَ على البالِ أسئلةٌ مثل: هل كان هذا التصنيفُ متوقعاً؟ وهل مدخلاتُ هيئةِ مكافحةِ الفسادِ تتناسبُ مع مخرجاتِها؟ وهل يُعقَل أن تكونُ استجارتُنا ب(نزاهة) كالمستجيرِ من الرمضاءِ بالنار؟! بصراحةٍ أشعرُ أنَّ الحديثَ عن هذا التصنيفِ دون معرفةِ المعاييرِ التي اعتمد عليها أشبه ما يكون بحديثِ ألفِ ليلةٍ وليلة، ففي النهايةِ كل ما نعجز عن تفسيرِه سننسبه إلى الجن، وقد حاولتُ معرفةَ هذه المعاييرِ (بمؤشراتِها) لكني لم أستطع مع الأسف الشديد، لذلك فإنه لا يمكن الحكمُ بشكلٍ دقيقٍ على صحةِ هذا التصنيف، وعلينا أن نبقى وسطاً بين التصديقِ والتكذيبِ والجزمِ والاستبعادِ، لكنَّ ذلك لا يمنعُنا من محاولةِ الإجابةِ عن الأسئلةِ السابقة، تلك الأسئلةُ التي يبدو إثباتُها فيه نوعٌ من المبالغةِ، وقد يكون من الصعبِ استساغتُها أو قبولُها مهما كانت الأدلةُ والبراهين، إذ ليس من المعقولِ أن يكونَ الفسادِ مع وجودِ هيئةٍ لمكافحةِ الفسادِ أكثرَ منه قبلها -مهما كان أداءُ الهيئةِ متدنياً- لكني أعتقدُ أنَّ هذا التصنيفَ لا يعني بالضرورةِ تزايدَ معدلاتِ الفسادِ في السعوديةِ مثلما يتبادرُ إلى أذهانِنا للوهلةِ الأولى، بقدر ما يعني أن السعوديةَ لم تلتزم بمعاييرِ الشفافيةِ الصادرةِ عن تلك المنظمةِ الدوليةِ. وأرجو أن لا يفهمَ القارئ الكريمُ أني أبررُ حصولَنا على هذا المركز، أو أريدُ تبرئةَ (نزاهة) من هذا الإخفاق، بقدر ما أودُ الإشارةَ إلى ما أعتقده صواباً حول هذا التصنيف، حتى لا ننخدعَ به كثيراً؛ إذ يمكن تحسينُ مركزِنا من الناحيةِ النظريةِ مع بقاء الوضعِ على ما هو عليه من الناحيةِ العملية، مع الاعتراف بأنَّ الهيئةَ ينقصُها كثيرُ في مجالِ مكافحةِ الفساد، وقد لا أكونُ مبالغاً إذا قلت إنها لم تحدد نقطةَ الانطلاقِ بعد، على الرغم مما أعطي لها من صلاحياتٍ وما وُفِّر لها من إمكانات، فهي مازالت تعتمدُ في عملِها على الجانبِ التوعوي والوعظي أكثر مما تعتمدُ على قوةِ النظامِ وصرامة القانونِ والصلاحياتِ الممنوحةِ لها، مع أن (الله يزعُ بالسلطانِ ما لا يزعُ بالقرآن)، راجياً أن يُدركَ المسؤولون في الهيئةِ أن المشكلةَ لا تكمنُ في أنَّ الناسَ لا يعرفون أنَّ الفسادَ حرام، إنما هي بالأحرى تتعلقُ بأنظمةٍ انتقائيةٍ فضفاضةٍ ليست صارمةً في التعاملِ مع كلِ الفاسدين، حتى اعتقد الناسُ أنها ليست مشرعةً من أجلِهم، ولقد ذُكر أنَّ واحداً من الموظفين البريطانيين الذين جاءوا إلى العراقِ من أجلِ تنظيمِ أمورِ التموين فيه؛ قد صرَّح بعد خبرةٍ طويلةٍ من العملِ هناك بالقول: «إن العراقيين كلهم لصوص»، فعلق أحدُ المفكرين العراقيين على هذا الكلامِ قائلاً: «إن الأنظمةَ الحكوميةَ يعدّها الشعبُ في بريطانيا أنظمتَه التي شُرِّعت لمصلحتِه، فهو يرعاها كما يرعى مصلحتَه وعائلتَه».