مع غروب شمس الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 ومع انطفاء آخر قطعة فولاذ متوهجة، مسحت أمريكا دمعها، استردت قليلاً من أنفاسها، وقررت أن تبدأ الانتقام والثأر لكل الأرواح التي فقدت تحت الأشلاء. تجزأت المهمة إلى قسمين رئيسين: الحرب العلنية على الإرهاب، والحرب المضمرة التي تسعى لإساءة منظمة ومدروسة للإسلام، المستهدف هو الإسلام كديانة والرسول كرمز ديني مقدس لدى المسلمين. الوسائل تتنوع ما بين أفلام يعكف على تأليفها وإخراجها النخبة والمفكرون، ومقالات صحفية هادئة ورصينة تنعى بحزن وأسى ضحايا الإرهاب الإسلامي الذي يقتل الأبرياء الوادعين في أوطانهم، إلى الأفلام الكرتونية التي تستهدف الأطفال والمراهقين وتكرّس فيهم مفاهيم الإيمان بقوة ووحدة أبناء الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي تحترم كل الأديان والأعراق والأجناس، ومع ذلك تتعرض لموجات متتالية من الحنق والكره والعداء، فقط لأنها بلاد الحرية والحضارة. اليوم يبدو أن غضبة الشارع الأمريكي لم تتمالك نفسها وخرجت عن الخط المألوف حين عبر مخرج فيلم «براءة المسلمين» عن كراهيته الواضحة للنبي محمد عليه الصلاة والتسليم. الفيلم الدنيء الذي تستنكره الصحافة الأمريكية في العلن، بينما تدعمه الجمعيات الخيرية المسيحية والحاقدون على الإسلام في الخفاء، وأحياناً على مرأى من الجميع كما يصرح بذلك نيكولا بارسي الذي أعرب عن أسفه لمقتل السفير الأمريكي في ليبيا، ولكنه لم يُبدِ أسفاً أو تراجعاً فيما يخص تصويره الفيلم! الفيلم الذي يقول طاقم عمله من الممثلين –في استخفاف واضح بعقولنا- إنه تم التغرير بهم ودبلجة أصواتهم وأنه لا علم لهم بما كان يراد به، ولم يصرح أحد باسم المخرج ولا مكان إقامته، إذ يبدو أن ردة فعلنا أمام هذا الفيلم كانت متوقعة بل ومنتظرة لما عرفوه عن بعض المسلمين في مواقف سابقة! لا توجد –على حد علمي- نسخة كاملة للفيلم، وما عُرض منه على شاشات التلفاز ومواقع اليوتيوب هو مجرد «ترايلر» بسيط ورديء الإخراج مع خدع بدائية لا تخفى على أحد. وهذا ما كان يحتاج إليه المخرج الذي خطط لكل هذه الدناءة. مشهدان أو ثلاثة تسيء إلى نبينا الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم.. تُنشر هنا وهناك على مواقع الإنترنت، ويلتقط المسلمون الطُعم ببساطة، تستثار الحمية، وتغضب النفوس وتتحول المعركة الشفهية إلى مظاهرات حادة أمام السفارات والقنصليات، يُقتل ويصاب جراءها العشرات، لتثبت تهمةُ «الإرهاب الإسلامي» علينا جميعاً، ونبدو أمام العالم أجمع قتلة وهمجيين، والدم لغة حوارنا الوحيدة. هل كان يحتاج المخرج لأكثر من هذا؟ ترايلر واحد فقط يرفع ستاره شخص مجهول خلف الكواليس، لتستمر المسرحية. السؤال الذي نحتاج إلى وقفة جادة وصارمة معه الآن هو: من يشوّه الإسلام أكثر؟ المخرج بترايلر الفيلم الذي لا يتجاوز أربع عشرة دقيقة أم المتظاهرون والمخربون؟ سيّما أن المشهد قد تزامن حدوثه مع إحياء ذكرى الحادي عشر من سبتمبر، التي مازال كثيرون منا ينتشون فرحاً وإحساساً بالنصرة عند تذكره، يضاف كل هذا إلى رصيدنا المشوّه السابق الذي رسخته القاعدة عن الجهاد الإسلامي والتصاقه الموازي للإرهاب. لماذا إذاً لا نبادر بتقديم صورة الإسلام الحقيقية بدل أن نظل رهائن ردة الفعل لأي فعل من هنا أو هناك؟ نحتاج إلى أن نعي خطورة الوضع الذي آلت وستؤول إليه الأحداث، نحتاج أن تُنشأ مؤسسات إسلامية مشتركة يتحدد هدفها في التعريف بالإسلام وتقديمه للآخر بصورته الربانية الصحيحة، نقياً وأبيض كما أراد الله له دائماً أن يكون. ليس من خلال إصدار الكتب والترجمات والكتيبات والمنشورات الورقية التي أوشكت على أن تفقد أثرها في هذا العالم الرقمي المتضخم، وليس من خلال المواقع والمدونات الإلكترونية التي لا يطلع عليها إلا المهتمون بأمر الديانات، أو الباحثون عن معلومة أو مصدر ما. ما نحتاج إليه هو الشاشة، لسان العالم الأول، وأن ننتج من خلالها أعمالاً مرئية ضخمة، يجمع لتأليفها المبدعون من المؤرخين والمفكرين والعلماء والدعاة وأهل المعرفة. وتوفر لإنتاجها الإمكانات التي نراها تصرف بسخاء الآن على برامج تليفزيون الواقع ومسابقات الفن والرقص التي تتكاثر كالفطر السامّ، وتمنح بعد ذلك للمخرجين والفنيين من أرباب الصنعة، الصلاحية لتقديمه دون أن ينادى بتكفيرهم أو مقاطعتهم كما حدث في مسلسل «الفاروق»! كم مسلسل «فاروق» نحتاجه الآن لنعرّف العالم بالفرق الحقيقي بين الإسلام والصور المحرّفة منه؟ ليس بالضرورة أن يتم تجسيد شخصية الرسول عليه أفضل الصلاة والتسليم، فقيم الإسلام النبيلة في الحفاظ على حياة الآخرين والمناداة بالسلم والأمن والعدل وعمارة الأرض هي ما يحتاج الآخر معرفته عنا، الإسلام مغيّب تماماً في شاشات التلفزة والسينما التي أصبحت قوة مؤثرة ومهيمنة، في حين تتوالى الهجمات المركزة والمكثفة على الإسلام لتصويره أداة للحرب والقتل، بل إن أحد ممثلي الفيلم أدلى بجملة مفادها أن الإسلام يحارب كل من ليس مسلماً ويحل قتل الأطفال والنساء، وبعضنا يمارس من أفعال القتل والتهديد ما يعطي مصداقية لهذا التوصيف البعيد كل البُعد عن جوهر الإسلام. لا يمكن الاستخفاف بالهجمات التي تشن ضد الإسلام أو التعامل معها كطارئ أو موجة لا أكثر، أو الصراخ تجاهها بغضب منفلت. إنها مركزة بقدر يفوق تصورنا في كثير من الأحيان. وتختار لترويج أعمالها الدنيئة الوقت الأنسب والأكثر تأثيراً. كهذا الفيلم الذي يتواكب تسريبه مع ذكرى أحداث سبتمبر، وبذلك يعزف على وترين متوازيين؛ إثارة مشاعر الأمريكيين وتذكيرهم بأن ما حدث لهم من إرهاب سببه الإسلام والمسلمون، والثاني هو استفزاز حمية المسلمين، والنتيجة هي مواجهة حادة بين الطرفين، في حين يغيب المستفيد صاحب الشرارة الأولى كما يحدث الآن مع المخرج الإسرائيلي أو الأمريكي أو القبطي «المجهول» كما يحاولون إقناعناً.. والحديث ذو شجون وأشجان.