أحببت القراءة في التاريخ منذ صغري. وحين كنت في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة، كنت أمضي العطل الصيفية في قراءة أمهات كتب التاريخ التي تزخر بها مكتبة أبي كالبداية والنهاية لابن كثير وتاريخ الطبري ومروج الذهبي للمسعودي وحياة الحيوان الكبرى للدميري، الذي كانت هوامشه كتاب تاريخ كامل. ولطالما شدتني فترة النبوة والخلافة الراشدة. في ذلك العمر الصغير، كانت سيرة الرسول – صلى الله عليه وسلم – والخلفاء الراشدين من بعده تتبدى لي كعمل درامي عظيم، كملحمة كبرى: تبدأ أحداثها في غار حار وتتصاعد حتى تبلغ ذُراها في عهد عمر بن الخطاب، عهد الفتوحات المبهرة والعدل الأسطوري، ثم تنحو نحو الذبول والنهاية التراجيدية الحزينة في خلافة علي بن أبي طالب. لست بجديد على حكايات عمر وسيرة عمر، فقد نهلت من معينها منذ نعومة أظفاري و شربتها روحي منذ كنت غضاً دقيق الجسد خلي الذهن. لكن، وكما كتبت في مقالتي الأسبوع قبل الماضي، السماع ليس كالتجسيد والكلام ليس كالصورة. وتقديم تلك السيرة المبهرة من خلال إعادة تركيب المشاهد والسياقات اللذين تتم بها الأحداث وتمثيل الحوارات، بما في ذلك التواصل اللالفظي من تعبيرات وجوه وأشكال أجساد وملابس ونبرات أصوات وبيئات تمت بها تلك الأحداث، كل ذلك جعلني أقف مشدوها مأخوذاً أمام أحداث مسلسل عمر، لكأني لم أمض نهارات الصيف الطويلة أعب من الرحيق الخالد لسيرته العطرة. كالعادة، يتصاعد الإبهار العمري بعد توليه الخلافة وتصدره المشهد الإسلامي كخليفة وإمام في زمن كانت دولة الإسلام تُبنى وأمته تتشكل. لكن وبينما كان عدله، كخليفة، هو واسطة العقد من سيرته ومكمن الجاذبية فيها، كما كان يتم تقديم تلك السيرة منذ تدريسنا في الابتدائية قصته مع مبعوث كسرى ومقولة رسول كسرى التاريخية «عدلت فأمنت فنمت» وهي الحكاية المؤسسة لكيفية رؤيتنا لشخصية عمر وفرادته، فإن المسلسل خرج بسيرة عمر، باحتراف وذكاء، من ضيق الأمير إلى سعة الفقيه/ المفكر ومن شخص عمر إلى نوعية الإسلام المُجسد بالتجربة اليومية للجماعة المسلمة في يثرب. ومع أن استرجاع عدل عمر الأسطوري مع رعيته وحرصه الشديد على التعفف عن مال بيت المسلمين أبهرني وأنا أراه مُجسدا أمامي بعمل درامي رغم معرفتي المسبقة بكل تلك القصص، إلا أن ما أخذ بلبي كانت الطريقة التي يعيش بها مجتمع يثرب وإدارة عمر لهذا المجتمع من ناحية و رؤيته لتصورات الفقيه من ناحية أخرى. ولئن كانت قصص عدل عمر هي ما صرفتني، وربما صرفت غيري، عن سيرة عمر الفقيه صاحب التصور الدنيوي للإسلام، فإن المسلسل قدم لنا طبيعة المجتمع الذي كان يقوده عمر والذي كانت تحدث فيه النوازل التي أعمل فيها عمرا رأيه. وبعد الحلقات التي عرضت لسيرة عمر الخليفة/ قائد المجتمع، فإنه يمكنني القول إن سيرة عمر بن الخطاب تمثل إحراجا للخطاب المشيخي السائد في بيئتنا السعودية بكثافة لم أنتبه لها قبلا، ربما وكما قلت أعلاه بسبب أن سيرته كحاكم أرخت بحجاب كثيف على سيرته كفقيه و عالم بمقاصد الشريعة. فعمر الخليفة بقدر ما كان يقود أمة المسلمين كلها، كان يدير مجتمع يثرب بنفسه فيشرف على الأسواق ويقضي بين الناس ويباشر مشاكلهم اليومية بنفسه. وتدحض واقعة توليته الشفاء العدوية لأمر الحسبة في السوق كل التصور المشيخي الذي قاوم ومازال تأنيث المحلات التجارية. وإني أسأل ضمير القارئ وحدسه، ألو كان عمر بيننا الآن هل يرضيه أن نأتي برجال من أصقاع بعيدة من الأرض فنضعهم بياعين في المحلات التجارية المكيفة المترفة ونمنع نساءنا من البيع في السوق إلا على الأرصفة تحت شموس آب اللاهبة؟ إن ما رأيناه متحققا في واقعنا اليوم، خطابا مشيخيا عارض اشتغال النساء في مهن البيع في المحال التجارية الحديثة لكنه سكت عن امتهانهن البيع على الأرصفة الحارقة ليتحقق في حالنا المبكي قول الشاعر: أحرام على بلابله الدوح/ حلال للطير من كل جنس. كما تدحض نفس القصة الخطاب المشيخي حول ماهية المرأة ككل، فقد ولّاها عمر أمرا يستحيل أن يسمح الخطاب المشيخي السائد أن يتقبله ذاك هو القضاء التجاري. أيضا، تصور عمر لماهية الحسبة بعيد كل البعد عن طبيعة الأعمال التي تباشرها مؤسسة الحسبة، أي هيئة الأمر بالمعروف، في واقعنا المعاش حاليا. وتقدم حكايته مع بلال المزني، حين صادر الأرض التي منحه إياها الرسول (ص) لعدم عمارته إياها إحراجا آخر للخطاب المشيخي الذي عارض مجرد فرض رسوم على الأراضي البيضاء في واقعنا، عفوا عن أن يفتي بمصادرتها ممن حجرها وتركها بيضاء لعقود من الزمن وسط أزمة إسكانية خانقة. ويتناقض تصور عمر عن آرائه الفقهية بشكل صارخ عن الطريقة التي يقدم بها الخطاب المشيخي آراءه في واقعنا المعاصر. إذ يستفز عمر وصف البعض لحكم قطعه أو رأي رآه بأن ذاك حكم الله ويخطب قائلا: «فإن رأينا رأيا فلا يقولن أحدٌ ذاك حكم الله» ويهدد بالعقاب من يصف رأيا بشريا بأنه حكم الله. أين هذا من المقولة التي ما فتئ الخطاب المشيخي يستخدمها لإغلاق أي نقد للرأي المشيخي، أعني مقولة «لحوم العلماء مسمومة»، وهي بالمناسبة مقولة أشعرية للرد على جماعات من بينهم أهل الحديث. في لحظة مناكدتنا المريرة مع التحديث والتقدم، و يتطلبه ذلك من حرية في النقد وفتح المجالات أمام المرأة و فتح باب الاجتهاد الفقهي للمبدعين في العلم الشرعي، حتى لو كانوا ممن يغردون خارج السرب، نزل علينا مسلسل عمر ليهزنا بعنف، ليقول لنا إن تيه الجدل الذي طال بكم أغفلكم عن حقيقة بدهية مفادها أن دينكم ليس ضد دنياكم وأن دنياكم ليست ضد دينكم.