أزمة السلوك الإنساني كله، وأزمة الثقافات الإنسانية كلها، مردها في ظني إلى الفجوة بين الفهم والمعنى. هذه الفجوة لا تردم إلا أن يصح الفهم ويتوافق -قدر ما هو ممكن- وإلا فإنها تزداد اتساعاً وتزداد الأزمة في المقابل اتساعاً. كل تحزبات البشر هي في الواقع تحزبات فهم قبل أن تكون تحزبات انحياز للجماعات، وهي قبل ذلك تشابه في أنظمة العقل وتشابه في القابلية للانقياد لأنظمة العقل تلك التي هي أنظمة فهم. وإذا كنا نرى الآن أن بعض العارفين في حال من الخصام والتضاد، فليس معنى هذا أن المعارف هي التي تتخاصم قدر ما هي التحيزات الذهنية المحضة لما نفهمه نحن حتى لو كان لا يطابق معنى ما نريد فهمه على وجه الحقيقة. وإذا كان شفاء العِيّ السؤال كما ورد في الحديث الشريف (العِيّ في فهمي هو الجهل الذي لا يتحرز) فما الذي يعنيه السؤال؟ ومن هو الذي نسأله؟ وما الذي يفعله السؤال في تحييد الانحياز الذهني لما نفهمه نحن؟ هذه ثلاثة استفهامات -سنجيب عنها- وحين نذكر السياق الذي ورد فيه الحديث الشريف فإنا سنتبين -على وجه الدقة- كيف نجيب. السياق هو التالي: (روى أبو داوود في سننه من حديث جابر بن عبدالله قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجر، فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالو ما نجد لك رخصة، وأنت تقدر على الماء، فاغتسل، فمات، فلما قدمنا على رسول الله أُخبر بذلك، فقال: «قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاء العِيِّ السؤال، إنما يكفيه أن يتيمم ويعصر -أو يعصب- على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده). السياق فيه سؤال ومسؤول وهو الذي توجه إليه السؤال وأثر للانحياز الذهني لفهم معين، إنما النتيجة كانت التفاوت بين الفهم والمعنى، بين الفهم والصواب. كان هناك تناقض كامل بين الفهم وهو موقف عقل والمعنى وهو حقيقة دين ومُراد دين قد يفوت على العقل تحصيله. وفوات التحصيل أحياناً قد يترتب عليه ما يناقض مراد الدين أويصادمه. نحن لا نقول إن النية كانت متوجهة إلى هذا أو تقصده، أكثر ما في الأمر أن مثل ذلك الفهم الذي لا يطابق المعنى هو من الخطأ المرفوع الذي يُعفى عنه، غير أن الأثر بطبيعة الحال لا يمكن رفعه أحياناً. ذلك هوالذي يجعل مثل هذا التفاوت مؤلماً في نتائجه وصعباً في مآلاته. السياق الذي أخذناه مثالاً يتضح منه أن المكان الذي توجه إليه السؤال لم يكن هو المكان الصحيح، بمعنى أن المسؤول فاتهُ الصواب خطأً وما كان يورد احتمال الخطأ، كان يتيقن الصواب، هذا في الحقيقة عذر، لأن النية ما كانت تتوجه لقصد السوء، أو تطويع فكرة الدين لمرادات غير سوية، فهو خطأ إذن مترتب على أثر الفهم، فكم هي خطيرة هذه المسألة؟ أثر الفهم كان مُصادمًا لمراد الدين. كيف نعود عقولنا على التحرز؟ هذا يعيدنا إلى الاستفهامات الثلاثة لنجيب عنها في مقالات لاحقة إن شاء الله.