هذه الحرب الاقتصادية التي أوقد نارها الرئيس الأميركي دونالد ترمب من خلال رفع التعريفة الجمركية على جميع دول العالم تتمحور حول المفهوم الذي تبناه ترمب منذ حملته الانتخابية الأولى خلال السباق الرئاسي في عام 2016، وهو "اجعل أميركا عظيمة مرة أخرى". يقال الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فإن التعريفات الجمركية الموجهة ليست مجرد رسوم لتحصيل الأموال، بل هي في الأصل أدوات فعّالة لإعادة بناء الصناعات الحيوية ورفع دخل الفرد. الرسوم الجمركية تعيد الإنتاج محليًا، وتخلق فرص عمل متنوعة. الأمر لا يتعلق بالعقوبات، بل بسياسة اقتصادية ذكية تضع في المقام الأول تهيئة بيئة عمل منتجة. عزيزي القارئ، عندما نتجاهل الضجيج الذي يحيط بهذا الموضوع ونتبنى فهمًا أعمق للقضية ونحكم ضمن المفهوم المشار إليه، نجد أن الرئيس ترمب يعمل على إصلاح الجذور وإعادة ضبط إعدادات أميركا إذا صح التعبير، وذلك من خلال الحرب على جبهتين؛ والتي يمكن القول: إنهما الخط الفاصل بين شعوب العالم الثالث والشعوب المتقدمة، وهما كالتالي: الأولى مفهوم الشعب المنتج الذي انكسر وانحسر إلى حد كبير في الولاياتالمتحدة الأميركية على أثر المبالغة والتشعب في حجم الحكومة الفيدرالية ودورها التشريعي والرقابي على سوق العمل، والذي يعيق ديناميكية السوق ويسهم بشكل كارثي في تحويلها إلى بيئة طاردة للمستثمرين من الداخل والخارج. كذلك الانفتاح بشكل مطلق على الاستيراد من الخارج بذريعة تقديم منتج رخيص للمستهلك. هذا النهج المعوج تسبب بشكل جليّ في تراجع روح الإنتاج وثقافة العمل، ويظهر ذلك عند مقارنة اقتصاد الولاياتالمتحدة الأميركية قبل أربعة عقود بنظيره في الصين الشعبية اليوم. الثانية "السلوك الاستهلاكي" هذا المحور مرتبط أساسًا بالمحور الأول، بمعنى أن الشعب غير المنتج والذي لا يبذل أفراده جهدًا كبيرًا في كسب المال نتيجة توسع الحكومة في تعزيز الفكر الرعوي من خلال الرواتب والدعومات الحكومية -مال رخيص- لن يملك القدرة على ضبط نزعة الاستهلاك، حقيقة فطرية يتفق عليها الجميع. فخطر السلوك والنزعة الاستهلاكية على الاقتصاد واضح وكارثي، كلما توسعت الدولة في زيادة وارداتها، كلما تستهلك أكثر، والاستهلاك مؤشر على وجود شعب بليد لا يملك قراره، ومن لا يملك قراره لا يملك سيادته! عزيزي القارئ، دعني أضع بين يديك في عجالة بعض الأرقام والنسب التي تستدعي أي رئيس أميركي يعي واجباته تجاه شعبه أن لا يقف فقط عند حد تصحيح التعريفات الجمركية وإنما إعادة صياغة المكون الاقتصادي بأكمله وهي كالآتي: في عام 2023، صدّرت مجموعة العشرين ما قيمته 17.4 تريليون دولار أميركي (76.9 ٪ من الصادرات العالمية) واستوردت ما قيمته 17.1 تريليون دولار أميركي (75.8 ٪ من الواردات العالمية). صدّرت الصين، أكبر مُصدّر لها، ما قيمته 3.42 تريليونات دولار أميركي، أي ما يعادل 19.7 ٪ من إجمالي الصادرات. في المقابل، استوردت الولاياتالمتحدة، أكبر مُستورد، ما قيمته 3 تريليونات دولار أميركي، أي ما يعادل 17.5 ٪ من إجمالي واردات مجموعة العشرين. وفي سياق تلك الأرقام المخيبة وأثرها على حياة المواطن الأميركي ومعيشته يقول مدير المجلس الاقتصادي الوطني هاسيت: "انضمت الصين إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2000، وفي السنوات ال15 التالية، كنا نحصل على السلع الرخيصة، ولكن أصبح لدينا عدد أقل من الوظائف، وأجور أقل حيث انخفضت الدخول الحقيقية للعاملين الأميركيين بنحو 1200 دولار". عزيزي القارئ، دور الرسوم الجمركية المتوازنة والمنضبطة هو حماية الاقتصاد الوطني وتعزيز الأمن القومي وصناعة شعب جاد، يقول وزير الخزانة الأميركي في تصريح يعد الأدق والأبرز في تشخيص الواقع: "هذا أمر يتعلق بالأمن القومي، والذي قد رأيناه خلال جائحة كورونا مع سلاسل التوريد الخاصة بنا، وقد قرر الرئيس ترمب أننا لا يمكن أن نكون معرضين للخطر بهذه الطريقة، ونعتمد على الدول الأجنبية في الحصول على أدويتنا الحيوية، وأشباه الموصلات، والشحن. ولعقود سمحت واشنطن للولايات المتحدة بأن تكون بمثابة ممسحة اقتصادية للعالم. وكان ذلك منطقيًا... خلال الحرب الباردة. فرض الحلفاء والخصوم على حد سواء حواجز جمركية وغير جمركية هائلة، وحققوا فوائض تجارية فاحشة، وأطلقوا عليها اسم "التجارة الحرة"، كل ذلك وهم يُحاضروننا عن "التعاون العالمي". الطريق أمام ترمب وعرة ومحفوفة بالمخاطر؛ لأن التعريفة الجمركية أو الرسوم الجمركية سمّها ما شئت، تعد معادلة دقيقة وصعبة ويجب التعاطي معها بتوازن من أجل الحفاظ على معدلات التضخم في مستويات لا تفضي إلى ركود تضخمي وبالتالي يخسر ترمب الرهان، وفي هذا الصدد يقول المفكر الأميركي توماس سويل: "لا يمكنك جعل أميركا عظيمة مرة أخرى من خلال رفع الأسعار على الأميركيين، وهو ما تفعله بطبيعة الحال التعريفات الجمركية". كذلك يقول ستيفن مور، المستشار الاقتصادي السابق لإدارة ترمب: "يجب أن يكون هناك اتساق مع رسوم ترمب الجمركية، كما يحتاج إلى خبير مؤهل في الرسوم الجمركية لتطبيقها بطريقة لا تُخيف وول ستريت أو تُسبب ركودًا اقتصاديًا". بالرغم من المخاطر وصعوبة المهمة، إلا أن الأمر -عزيزي القارئ- يبدأ وينتهي على عتبات حقيقية واحدة وهي أن من حق كل دولة أن تحمي إنتاجها المحلي من الإغراق، ومن حقها أيضًا أن تحرص على أن تكون منتجة أكثر مما هي مستهلكة؛ لغرس قيم العمل والجد في شعبها. الإنتاج يعني وجود وظائف وشركات ومصانع تعمل، ونشاط اقتصادي يحقق عوائد للشركات والمصانع والدولة، ويحميها من مخاطر عجز الميزانية والديون.