كتغيير لابد منه يأتي شهر «رمضان»، فالعام كان يمكن أن يكون متشابهاً لولا وجود هذا الشهر. فلوجود رمضان ضمن منظومة العام الهجري أهمية لا تميزه وحده بل تجعل من وجود بقية الأشهر وجوداً مميزاً. وفي تاريخنا لرمضان مكانته، ففيه نزل الوحي على خير خلق الله محمد بن عبدالله ليلة القدر من عام 610م، فكان بدء الوحي، وكان الشهر الذي نزل فيه الكتاب العزيز كاملاً إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم ليكتمل نزوله مجزأ خلال ثلاثة وعشرين عاماً. ها هو رمضان يُقبلُ، معلناً بوصوله أن لأمة محمد تاريخاً طويلاً من العزّة، ففي السنة الأولى للهجرة عقد النبي – صلى الله عليه وسلم – سرية حمزة كأول لواء في دولة الإسلام، وفي السنة الثانية للهجرة كانت غزوة بدر الكبرى في رمضان، وفيه من العام الخامس كانت غزوة بني المصطلق، وفيه من العام الثامن للهجرة كان فتح مكة الذي يسميه مؤرخو دولة الإسلام بفتح الفتوح لدخول الناس الدينَ أفواجاً على إثر ذلك الفتح العظيم، وفيه كانت نهاية الأصنام، وفي العام التاسع قدم رسول ملوك حمير إلى محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة والسلام، وفي ذات العام من شهر رمضان أسلم وفد ثقيف. هذا رمضان في زمن أفضل الخلق عليه السلام، لكن رمضان بقي شاهداً عبر تاريخنا الإسلامي على عظمة هذا الدين وعزة هذه الأمة، فإن كانت فاطمة بنت محمد قد توفيت في رمضان من عام أحد عشر، واستشهد ولدها فيه عام أربعين للهجرة، كما توفيت فيه أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق سنة ثمان وخمسين، إلا أن رمضان بقي شهر عزة وسؤدد، إذ فتح المسلمون الأندلس فيه من عام اثنين وتسعين للهجرة، وفيه كانت معركة بلاط الشهداء من عام أربعة عشر ومائة للهجرة، وفيه دخل المعتصم بغداد سنة ثماني عشرة ومائتين للهجرة، وفيه فتح مدينة بابك بخراسان في زمن المعتصم عام اثنين وعشرين ومائتين، وفي السادس من رمضان سنة ثلاث وعشرين ومائتين كان فتح عمورية، وفيه انتصر المعتمد بن عباد على الفرنجة عام تسعة وأربعين وأربعمائة، وفي رمضان سنة تسع وخمسين وخمسمائة أعز الله قائده نور الدين زنكي حين نصره على الصليبيين ومكنه من أسر قائدهم واستعادة مدينة حارم بالشام، وفيه عام سبعين وخمسمائة فتح الله على يدي القائد صلاح الدين الأيوبي عدداً من مدن الشام واستعاد من ضمن المدن التي استعادها من الصليبيين مدينة بعلبك، وفيه من عام أربعة وثمانين وخمسمائة كان فتح الكرك وصفد، وفيه من عام ثمانية وخمسين وستمائة نصر الله القائد المملوكي قطز في معركة عين جالوت على التتار وقائدهم هولاكو، وفيه سنة ثلاثة وستين وستمائة انتصر مسلمو المغرب العربي في جهادهم على الصليبيين، وفيه بعد ذلك بثلاث سنوات سنة ست وستين وستمائة فتح الظاهر بيبرس أنطاكية واستردها من أيدي الصليبيين. ليستمر رمضان علامة مضيئة حافلة بعدد كبير من محطات العزة لهذه الأمة التي ستبقى ما بقيت الأرض حارسة لدين الله معلية لكلمته ولو كره الكافرون، ففي زماننا الحديث كان لرمضان صولاته وجولاته التي كان من أبرزها سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وألف حين كانت حرب العاشر من رمضان، التي انتصر فيها المصريون على الدولة اليهودية في سيناء. هذا هو رمضان كما كتب المسلمون عبره تاريخهم المجيد، فشهر القرآن جدير بمثل هذا التاريخ الطويل والفارق في سياق متصل مع بقية أشهر العام لنعرف كيف كانت أمتنا، وكيف كان لرسولنا الكريم أثره في تربية النفوس وجعلها قادرة على صناعة أقدارها بفضل وتوفيق ممن سجدوا له خاضعين، وصاموا له موقنين بأن فيما افترضه عليهم من عبادات تربية قد يصعب على البعض استيعابها أو إدراك ماهيتها. إن لرمضان معاني كثيرة وعديدة لعل أبرزها أنه شهر الإنجاز والعزة وليس شهر التكاسل والتخاذل والنوم المتصل منذ بزوغ الفجر إلى وقت الإفطار. ذلك أن من مرّ به رمضان بهذه الطريقة وإن كان ممن ثابر على صلواته المكتوبة ونوافله وفضائله لكنه سيفقد بلا ريب المرور من مدرسة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، تلك المدرسة التي جعلت من رمضان علامة فارقة لصنع الرجال الأشداء، كما جعلت منه علامة فارقة لصقل الأمهات وتعليمهن فضيلة الصبر ومعنى أن تكون الأسرة المسلمة عاملة دائبة لا مسترخية متكاسلة توشك أن تكون عالة على مجتمعها. ها هو رمضان يشرق من جديد، بمعان كثيرة ودروس جليلة، سيكون من المؤسف، حتى لمن حاول تتبع عباداته وفضائله، أن يفوّت على نفسه دخول هذه المدرسة المحمدية الخالدة، ففي هذا الشهر تهذيب وتربية لا يدركها إلا من رغب المرور بالتجربة مروراً حقيقياً وصادقاً. وكل رمضان وأنتم بعزة ومحبة.