طالب معالي رئيس مجلس الأعلى للقضاء الشيخ الدكتور صالح بن حميد في الجزء الثاني من حواره ل «المدينة» أصحاب القنوات الفضائية بإسداء البرامج الإفتائية إلى من هو أهل لها، مناشدًا بعدم التسرع في الفتيا وبخاصة في الأمور الحادثة والتي تحتاج للعناية والبحث، مشيرًا الى أن هذه البرامج من الإفتاء وبرامج التوعية والتوجيه في هذه الفضائيات فيها خير كثير والناس محتاجون إليها وقد سدَّتْ فراغًا كبيرًا، فالقائمون عليها من طلبة العلم والمشايخ يبذلون جهودًا مباركة، بارك الله فيهم وأحسن إليهم غير أنه قد يلحظ في بعض الأحيان والأحوال نوع لتسرع أو تعجل مما يستدعي التنبيه، فقد كان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرع في الفتوى، ويود كل واحد منهم أن يكفيه غيره تلك الفتوى، فإذا رأى أنها قد تعينت عليه بذل اجتهاده في معرفة حكمها من الكتاب والسنة أو قول الخلفاء الراشدين ثم أفتى، وقال عبدالله بن المبارك: حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال: أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أراه قال في المسجد، فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا مفت إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا، وقال ابن عباس: (إن كل من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه لمجنون، قال مالك: وبلغني عن ابن مسعود مثل ذلك. وقال سحنون بن سعيد: أجسر الناس على الفتيا أقلهم علمًا، يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه، وعزا السبب في كسب تلك البرامج الإفتائية السريعة في الفضائيات توجه المشاهدين إليها كونها متاحة ومتيسرة في أسرع وقت. وقائع تاريخية وتطرق فضيلته إلى أحداث إسلامية ووقائع تاريخية وقعت في رمضان، تشعر المسلمين في كل زمان ومكان بالفخر والعزة، ففي رمضان نزل الوحي والقرآن الكريم وبدأت دعوة الإسلام الخالدة: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} في رمضان انتصر المسلمون وعلت راية الإسلام وبلغوا النصر والعز والتمكين في عدد من الوقائع التاريخية، فقد كانت غزوة بدر الكبرى يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ونصر الله عبده وجنده المؤمنين وكانت في السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة، كما كان فتح مكة وذلك في العاشر من شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة وبها ظهر الحق وزهق الباطل وكمل الدين وتمت النعمة وقويت شوكة المسلمين وعز شأنهم، ثم كانت معركة القادسية في رمضان سنة خمس عشرة للهجرة بقيادة سعد بن أبي وقاص، ثم فتح بلاد الأندلس والذي كان في رمضان سنة 92ه بقيادة طارق بن زياد، وكانت معركة الزلاقة وهي في جنوب دولة إسبانيا حاليًا كانت في سنة 479ه، وكذلك معركة عين جالوت وكانت في رمضان سنة 685ه بقيادة السلطان قطز والقائد العسكري بيبرس. وكذلك موقعة حطين كانت في رمضان سنة 584ه بقيادة صلاح الدين، كما كانت حرب رمضان 1973 أو حرب أكتوبر في رمضان سنة 1393ه، وفيها تمكنت القوات العربية المسلمة من الانتصار على القوات الصهيونية الغاصبة، فعبرت الجيوش المسلمة قناة السويس وهزمت الجيش الإسرائيلي وهدموا بحمد الله خط بارليف، وغيرها من الوقائع التي تشعر بالعزة والفخر بهذا الدين العظيم. مظاهر اجتماعية وقال ابن حميد عن تعزيز اللحمة بين الأسرة والمجتمع في الأحكام الشرعية وفي رمضان خصوصا: مما لا شك فيه أن تلك المواسم المباركة التي شرعها الله خيرية للعباد في أحوالهم الإيمانية والاجتماعية والمالية وغيرها فشهر رمضان شهر شرعه الله تحقيقا للتقوى في نفوس العباد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} يقول الشيخ السعدي: «يخبر تعالى بما منَّ به على عباده، بأنه فرض عليهم الصيام، كما فرضه على الأمم السابقة، لأنه من الشرائع والأوامر التي هي مصلحة للخلق في كل زمان. وفيه تنشيط لهذه الأمة، بأنه ينبغي لكم أن تنافسوا غيركم في تكميل الأعمال، والمسارعة إلى صالح الخصال، وأنه ليس من الأمور الثقيلة، التي اختصيتم بها، ثم ذكر تعالى حكمته في مشروعية الصيام فقال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى، لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه» وهذه الغاية التي قصد منها الشارع سبحانه وتعالى في هذا الشهر المبارك وهذه الشعيرة العظيمة لا بد أن يظهر أثرها في سلوك المسلم في تعامله لذا شرع للعبد في حال صيامه أن يقول عند انفعال» إني امرؤ صائم» وبهذه الجزئية يظهر عناية الشرع المطهر بتهذيب الأخلاق ونشر الوعي في التعامل مع الآخرين وكبح جماح النفس والانتصار للذات، ولا شك أن هذا البعد قاعدة متينة في مد جسور التلاحم بين أفراد المجتمع عموما والأسرة خصوصا، والمقام لا يحتمل الإطالة وإلا فإن أهل العلم قد بينوا جملة من الأمور المعززة للحمة بين أفراد الأسرة في المجتمع المسلم في كثير من الأحكام الشرعية والآداب المرعية. ويمثل الصيام نوعًا من الاتصال والتواصل الاجتماعي، فإن امتناع أبناء المجتمع المسلم عن الطعام في وقت واحد مهما كانت أوضاعهم الاجتماعية وتناولهم له في وقت آخر محدد، إلى جانب الشعائر الجماعية الأخرى التي تعودها المسلمون كالصلوات المفروضة والتراويح في هذا الشهر المبارك من أهم ما يوحد الشعور بالتجانس، ومن أهم ما يزيل الحواجز التي تولدها الظروف المختلفة. ولعل من أظهر مظاهر الترابط والتلاحم الأسري في هذا الشهر الكريم ما يلاحظ لدى كثير من الأسرة حين يجتمعون ويتحلقون حول موائد الإفطار في منازلهم، ومع بعض أقاربهم، وهو شيء مشاهد بل إنه صورة جميلة ينبغي أن تقود إلى تذكر أحوال بعض الأسر التي قد يمر عليها الشهر ولديها أحد أبنائها أو أقربائها وقد سافر أو تغرب فتذكره في هذا الشهر الكريم. إسراف وتبذير وفيما يتعلق بقضية الإسراف والتبذير في رمضان قال: نحن نعلم أن الإنسان إذا تعاهد نفسه طيلة شهر رمضان على ضبط شهواته فسوف تتربى نفسه على ذلك في المستقبل، فهو مدرسة للنفس تتمرن فيه على ترك المحبوب بمحبة الله عز وجل، أي: لأن الله يحب ذلك، فإذا مرن نفسه في هذا الشهر كاملًا على ترك المألوف والمحبوب لنفسه تبعًا لرضى الله عز وجل ومحبته فإن النفس سوف تتربى وتتهذب، فلننظر حال بعض الناس اليوم: تجده يقع في الإسراف من جانبين، فيقع في الإسراف البدني حين يأكل كثيرا، وملء البطن قال فيه حكيم القلوب والأبدان محمد صلى الله عليه وسلم: (ما ملأ ابن آدم وعاء شرًا من بطنه) الوعاء: الآنية (فإن كان لا محالة -يعني: هو أراد أن يملأ بطنه- فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه)، وفي الإسراف المالي حين يشتري ما يزيد على حاجته ويصنع من الطعام ما يزيد على حاجته أيضا، ولو علم الإنسان قدر المال وعناية الشرع به ما أسرف في بذله قال الله تعالى: «وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا»، فالمال لا ينبغي أن يكون إلا بيد إنسان رشيد، يعرف كيف يتصرف تملكًا وتصرفًا، أما السفيه فلا يعطى المال، السفيه هو الذي يبذله في غير فائدة كما قال أهل العلم: «إن السفيه هو الذي يبذل ماله في حرام، أو في غير فائدة»، فالمال له شأن عظيم ولهذا قال سبحانه: «وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا» ومعنى قوله: جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا «أي: صيرها قيامًا تقوم به مصالح دينكم ودنياكم». روابط إيمانية وعد رمضان صورة من صور اجتماع المسلمين وتلاحمهم وتآخيهم، فيحس الغني بالفقير وتظهر مظاهر الرحمة والإنفاق، كما تظهر شعيرة الصيام ويتحد المسلمون بالإمساك في الصيام في وقت واحد ويفطرون في وقت واحد ويصلون جميعًا صلاة القيام وتظهر من مظاهر الأخوة والتلاحم ما لا يظهر في غير هذا الشهر وهي بلا شك فرصة لاستثمار هذا الشهر بتقوية تلك الروابط الإيمانية، مؤكدا أن الإسلام دين التآلف والتراحم والمحبة، بين الله ذلك في كتابه بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وقال: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}، إنها دعوة للمؤمنين بالتآخي والتراحم والتلاحم وبيان أن إخوة الإيمان أعظم حقًا من إخوة النسب ما أكثر ما ورد التعبير بالأخ في كتاب الله وفي سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} وسمى أهل الجنة إخوانًا فقال سبحانه: {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} وقال: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} وقال صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه)، ورمضان صورة من صور اجتماع المسلمين وتلاحمهم وتآخيهم.