يشير عنوان هذا المقال إلى اسم رجل ربما لا يكون مشهورا خارج محيط أقاربه ومعارفه. فهو إنسان من سائر الناس، وهو ليس قريبا لي، ولا مدرسا، ولا صديقا، ولا زميل دراسة، ولا زميلَ عمل. ومع هذا لا زلت أحتفظ له بأجمل الذكرى، فهو حاضر أبدا في ذهني كلما استعرضت ما مضى من حياتي. وكانت النية في كتابة مقال عن هذا الإنسان حاضرة أبدا في ذهني، لكني كنت أنشغل عن ذلك، وأندم دائما على التأخر في كتابته. هذا الإنسان هو: منيع الله المطرّفي الحربي. وكان سائقَ «قلاّب» يشتغل في نقل الرمل من وادي العقيق المشهور الذي يقع جنوبي غرب المدينةالمنورة. وكان ذلك الرمل يُستخدم في بناء الأحياء الجديدة التي بدأ البناء فيها في أثناء موجة البناء الواسعة التي أعقبت هدم كثير من الأحياء التي كانت تحيط بالحرم النبوي الشريف في إطار التوسعة السعودية الأولى منذ منتصف سبعينيات القرن الهجري الماضي. وكنا، أنا وأخواي: خلف رحمه الله تعالى، و»العميد» علي حفظه الله، قد التحقنا بالدراسة في مدارس داخل المدينةالمنورة بعد أن أنهينا المرحلة الابتدائية في مدرسة ذي الحليفة في آبار علي، وهي من ضواحي المدينة. وقد التحقنا ثلاثتنا بالدراسة في المدرسة الصناعية التي كانت تقع في باب العنبرية. أما أنا فتركت المدرسة الصناعية بعد سنة والتحقت بالدراسة المتوسطة في متوسطة علي بن أبي طالب وكانت في محلة «العَطَن» شمالي المدينة، ثم انتقلتُ في السنة الثالثة المتوسطة إلى متوسطة أبي بكر الصديق التي كانت في حارة داخلية شمالي الحرم النبوي الشريف. أما أخواي فظلا يدرسان في المدرسة الصناعية التي انتقلت في ما بعد إلى حي المصانع الذي يقع في طرف المدينةالمنورة الشمالي. هذه مقدمة لازمة لأصل إلى الكلام عن مشكلة المواصلات التي كنا نعاني منها يوميا. فلم نكن نملك سيارات، ولا دراجات نارية أو هوائية، ولم يكن أهلنا يملكون سيارات، ولم يكن جيراننا يملكون سيارات كذلك. وكنا نعتمد على المشي مسافات طويلة حتى نصل إلى طريق جدة – المدينة لننتظر مرور سيارة تأخذنا إلى أقرب مكان إلى مدارسنا. وكان هناك بديل يتمثل في وجود عدد من «القلابات» التي تشتغل بنقل الرمل من وادي العقيق الذي نسكن في جزء منه يسمى «البريقا» إلى «ورشات» البناء في المدينة. وكان المكان الذي تأخذ منه تلك «القلابات» الرمل يبعد عن مساكننا مسافة ليست بالقصيرة. وكنا نذهب إلى حيث تشتغل تلك «القلابات» ونتوسل إلى سائقيها أن يأخذونا معهم إلى أقرب مكان في المدينة. وكان السائقون يسمحون لنا بالركوب فوق الرمل، وكان بعضهم يتضايق من تكرار ركوبنا معه يوميا. وكنا نعاني من البرد الشديد في الشتاء حين كنا ننتظر انتهاء العمال من «تحميل» صندوق «القلاب» بالرمل، ونفرح كثيرا حين يسمح لنا السائقون باعتلاء الرمل، ثم نتشبث بكتبنا وملابسنا حتى لا تتطاير مع الهواء، بالإضافة إلى معاناتنا مع صقيع البرد ولفح الهواء البارد. وكان أكثر ما يشغلنا حين نصل إلى المكان الذي ننزل فيه أن ننفضَ الترابَ العالق بملابسنا وكتبنا ووجوهنا! أما في الظهيرة فكنا نمشي مسافات طويلة من مدارسنا حتى نصل إلى باب العنبرية (وهو المدخل الغربي للمدينة) ثم ننتظر وقتا طويلا حتى يمر بنا أحد «القلابات» لنتقافز ملوِّحين لسائقه بأن يأخذنا معه إلى أقرب مكان من منازلنا. وكان بعض منهم يصرفون وجوههم إلى الجهة الأخرى حتى لا يرونا فيضطروا للتوقف لإركابنا، وكان بعضهم يعتذر بأنه ينقل الرمل من مكان بعيد عن منازلنا حتى لا نركب معه. وكان أكثر ما يؤلمنا حرارة الشمس ولفح الهواء القائض في صناديق «القلابات» حين يتفضل علينا بعض أولئك السائقين بالتوقف لنركب في صناديق قلاباتهم. وهنا يأتي الحديث عن منيع الله. فقد كان هذا الرجل مختلفا عن سائقي تلك «القلابات» جميعا، وكان بعضهم يعرف أهلنا. أما منيع الله فلم يكن يعرف أهلنا، وكان يختلف عن السائقين جميعا بقوله لنا منذ أن عرف أنا ندرس في المدينة، وفي أول يوم وصلنا فيه إلى المكان الذي ينقل منه الرمل: لا تطلبوا مرة أخرى مني السماح لكم بالركوب، بل تعالوا واركبوا مسموحا لكم دائما. وزاد على ذلك أن سمح لنا، بخلاف سائقي القلابات الآخرين كلهم تقريبا، أن نأتي مباشرة، من غير انتظار لانتهاء العمال من تحميل القلاب بالرمل، ونركب في «الغمارة» لا في «الصندوق»، كما كان يمنّ علينا بعض الآخرين. وكان يحاول أن يوصلنا إلى أقرب مكان لمدارسنا. أما في الظهيرة فكنا نفرح فرحا لا نظير له إن صادفنا منيع الله، فقد كان يقف بمجرد أن يرانا، ونركب معه في «الغمارة» مما يحمينا من البرد في الشتاء ولفح السموم في الصيف. وأنا لا أدري الآن إن كان منيع الله حيا أم توفاه الله إلى رحمته، ولا أظنه إن كان حيا يتذكرني وأخويَّ، وربما لا يتذكر ذلك الجميل الذي أسداه لنا طوال ست سنوات. ومع ذلك فقد كنا، أنا وأخي خلف -رحمه الله- وأخي علي لا نملّ، كلما ذهبتُ إلى المدينة وجاء ذكر معاناتنا مع المواصلات أيام دراستنا في المدينة، من تذكر جميل منيع الله علينا. وكم كنت أتمنى أن يكون أخي العزيز خلف حيا ليقرأ هذا المقال الذي كان يحثني دائما على كتابته تخليدا -لا معاناتنا التي لم تكن تختلف عن معاناة أكثر أبناء جيلنا- بل تخليدا لذكرى رجل يمثل أنموذجا إنسانيا فريدا كان يبذل المعروف لمن لا يعرفهم من غير انتظار لجزاء. كنا، أنا وأخواي، نسأل عن أخباره دائما، لكني إن كنت آسف على شيء فعلى أني لم تتح لي فرصة مقابلتة شخصيا، بعد هذه السنين الطويلة، لكي أُذكِّره مباشرة بما له من جميل عليَّ وعلى أخويّ. لذلك أغتنم هذه الفرصة لأقدم له شكري الصادق المتأخر كثيرا، عملا بالأثر المشهور: «لا يَشكر اللهَ من لا يشكر الناس».