الصندوق الأسود (مدرسة حنين1) أجمل مافي المقال السابق (مدرسة حنين) هي صورة ذلك (القصر) الطيني الشامخ الذي أضافته صحيفة طريب مشكورة للمقال ، وهو أحد بيوت الرجل الكريم شايع بن جبران آل عادي رحمه الله، ولكنه - أي المبنى - لم يكن أبدا مقرا لمدرسة حنين الابتدائية ولو لساعة واحدة ولكن كان مقرا للمتوسطة والثانوية في وقت لاحق. وقبل أن أعود لماتبقى من تسجيلات الصندوق الأسود حول الدراسة سابقا وظروفها لابد أن أنوه إلى أن سبب كتابة هذه المشاهد المختلفة هو محاولة لتجميع أجزاء مبعثرة لصور ليست جميلة ، ليطلع عليها من يرغب من أبناءنا وإخواننا الشباب ولابد أنهم سيتخيلونها بطريقتهم وتفكيرهم لا كما رأيناها نحن متمنيا أن يقتربوا من واقع الطالب آنذاك في البيت والمدرسة حيث المعاناة والمشقة مقارنة بالوضع الحالي ، علماً ان وضع طالب اليوم لايزال بائسا في اكثر من مكان. ورغم ان بعض التعليقات كانت مؤلمة كما ذكر أصحابها في المقال السابق وانأ أشاركهم مشاعرهم ولكن اذكرهم بان الهدف ليس توجيه الاتهام أو اللوم لأحد بقدر ماهو توعية طالب اليوم في الثانوية والجامعة لأخذ العبرة والمقارنة فتلك أيام خلت وظروفها مختلفة. ماهي إلا شهورا قليلة حتى توفرت الكراسي والطاولات الخشبية الطويلة التي يشترك فيها أكثر من طالب في جميع فصول المدرسة ، علما بأن الصفوف الثالث فما فوق كانت مجهزة مسبقا بكراسي وطاولات أما طلبة الصف الأول والثاني فكانوا يجلسون على الأرض حين التحاقنا بالمدرسة. استمر السيناريو المرعب كما هو وأكثر.... فالوضع قاسيا جدا والعنف في ازدياد وهو سيد الموقف والخوف الشديد هو الجو السائد بين الطلبة وخاصة الأصغر سنا والمستوى التعليمي أكثر من سيء وهو الذريعة والشماعة التي يعلق عليها المعلمين العرب ابتكار أساليب الرُهاب والعنف ضد الطالب وضربه المبرح الذي يصل أحيانا إلى تكسير الأصابع وتورم بطن الأرجل ونزيف لثة الاسنان ، وكم رأينا من رؤوس الطلبة المصابة بحكم الظروف القاسية في البيت بالتقرحات والفطريات والإمراض الجلدية الأخرى وهي تنزف دماً وصديدا على الوجه - أي والله - نتيجة لطيش سياط الجلاد المنهمرة التي لا تتوقف على الراس عندما لا يتمكن الضحية من مد يديه وفتح كفيه التي أصابها الإعياء والعجز التام!! ولم يشفع البكاء والعويل الذي يُقطع القلوب ولا لون الوجه الشاحب الحزين ولا رائحة الفم الجائع منذ عصر الأمس ، أما بقية الطلبة المحكومين بالعقاب فهم واقفين ومصابين بالذعر والذهول وهم يشاهدون منظر التعذيب وصراخ الضحايا ، وأحياناً يتجمهر المعلمين على باب الفصل للتفرجة - إي والله - وأتذكر ونحن في الصف الثالث أن طالبا استفرغ على رأس زميله الجالس ثم انهار وسقط مغشيا عليه قبل أن يصله الدور. وبالمناسبة فان الوضع في البيت والمزرعة وحتى في مسجد القرية لايختلف كثيرا عن الحال في المدرسة !!! فلا نُحمل المعلمين آنذاك وحدهم وزر مرحلة كاملة كانت لها ظروفها المختلفة. وفي يوم شديد الحر ونحن في الصف الثاني الابتدائي أصابنا العطش إلى درجة كدنا أن نفقد الوعي لولا أن رحمنا الله برجل طيبا رحيما يتعاطف مع كل الطلاب ويدعو لهم دائما بالنجاح وقد عرفناه بهذه السجية لاحقا مع كل الناس.. فقد توسل هذا الإنسان العطوف إلى المعلمين أو المدير ولاندري ماذا قال لهم ولكنه ألح في الطلب بأن يسمحوا لنا بالخروج للشرب فقط فوافقوا فاحضر لنا قدرين يحملهما فوق رأسه مرتين من بئر العم شايع بن جبران ومعه مغرفة (علبة عصير معدنية فارغة!!) واخذ يسقينا واحدا تلو الآخر حتى امتلأنا ولم نرتوى من شدة العطش!!! فاللهم يامغيث يارحيم اسقه من حوض خاتم الانبياء والمرسلين وأجعل الفردوس الأعلى مقره وسكناه فقد توفي منذ ثلاثة أشهر انه العم الطيب علي بن حسين ال بودبيل والد زميلنا سعد (عظم الله اجرك). في آخر السنة الثانية وبداية الثالثة استمرأنا الوضع وأخذنا نتأقلم معه وأصبحنا أكثر جرأة ونشتكي لبعضنا من قلة النوم وكثرة الكوابيس الليلية والاستيقاظ المفاجئ والسير بلا وعي في غرف المنزل المظلمة ، وقد سمعت إحدى نساء القرية تذكر قصة مرعبة للوالدة عن خروج ابنها من المنزل بلا وعي وليتها لم تفعل سامحها الله حيث تذكر أن ابنها فلان كان نائما وفجأة وخلال استيقاظها وقت السحر لم يكن في فراشه ، وبحثوا عنه في كل مكان حتى في غرفة (ريشة) البقرة والحمار ومخزن التبن فلم يجدوه وبعد أن يأسوا توجهوا خارج المنزل للبحث عنه فسمعوا بكاءً واستغاثة بالقرب من البئر فعرفته الأم الرؤوم الملتاعة – تبا وتعسا لمن يتنكر لأمه_ فهرولت نحوه فوجدته خلف ماكينة البلاكستون على فوهة البئر وهو مُتسمر وممسك بخزان الديزل لايدري مالذي جاء به ولا أين هو ولا يستطيع العودة للبيت فسألته أمه وهي تبكي : تكفى يافلان وش جابك هنا؟ وتقول انه لم ينطق بغير كلمة المدرسة !!!! لم أبالغ والله ولكني قلت ماسمعت .... الشيء الجيد في حنين لابتدائية حينذاك هو طول مدة الفسحة حيث تمتد إلى أكثر من ساعة أحيانا وكان يقام فيها مباريات بين الفصول وأحيانا بين المعلمين والطلبة الكبار ... في تلك الأيام حدث تطور مذهل فقد أصبح في غرب وادي طريب محطة محروقات عبارة عن خزانين لونهما اسود على مرتفع في أسفل الهضبة شمالا مقر سوق الاثنين الحالي والعداد يعمل بضغط الجاذبية (فيزيائي) فقط وهذا لايهمنا ولكن ان يوجد ضمن المحطة مقهى شاي أبو أربعة وتميس فتلك معجزة بل صدمة!! ومن يمتلك في جيبه نصف ريال فهو محظوظ وينتظر الفسحة بفارغ الصبر وهذا ماحدث مع بعضنا حيث ننطلق بسرعة الكامري حاليا بلا حذاء أحيانا عبر حفرة البطحاء الشهيرة غرب المدرسة ثم نعبر الخلجان والوادي والمزارع ونخرج من القرية غربا قبل أن نصل إلى المقهى وهناك ينتظرنا الرجل الطيب حسين بن محمد ابوجبهة رحمه الله فيقدم لنا الشاي والتميس القادم من الخميس مرتين في الاسبوع!!! لنلتهم ما نجد ثم نعود للمدرسة جريا سريعاً قبل نهاية الفسحة وأحيانا بعدها فنتلقى عقابا نستحقه. حصة الرياضة الشيء الوحيد المقبول لنا في المدرسة ولكن لدينا مشاكل مع الملابس والأحذية الرياضية فما هو الحل؟ بالنسبة للملابس فمن لايوجد تحت ثوبه شيء فعليه البحث عن صديق يسلفه الشورت فهو الاهم ولكن كيف يخلعه امام خلق الله؟!! الجريء لايتردد والخجول يبحث عن أي شيء يتوارى خلفة ويخلعه ويتركه مكانه ليأخذه الآخر!! الفانيله لامشكله فالثوب يكفي فيجمع نصفه الاسفل بداخل السروال (نسميه الهاف آنذاك!!) وتصوروا المنظر!! اما الحذاء الرياضي فهذا ترف ولكنه متوفر لدى البعض!!! وكثيرا ماكنا نذهب في الفسحة وخاصة أيام الإمطار إلى الرمل الأبيض (الرمضة) للوثب واللعب في أسفل الهضبة شرق قرية لاهمة التاريخية. مواصلاتنا في اغلب أيام السنة الأولى والثانية هي الحمير مع انه يوجد نظام نقل مدرسي ولكنه نقل مزاجي كثير الانقطاع ولايشمل بعض القرى. وكان الطلبة الأبعد مكانا من المدرسة هم الأكثر معاناة من غيرهم حيث يتسلط عليهم ثلاثة أعداء شرسين الأول هو الكلاب السائبة المخيفة في الطريق بعيدا عن القرى والثاني المضاربات شبه اليومية بين الطلبة لأسباب عنصرية قبلية وخلافات بين الكبار والعدو الثالث والأخطر لطلبة جنوب طريب هو العفاريت التي توهمنا بوجودها مابين هضبة مشروفة وريع الزبرة!!!. على الأقل أنا ومعي آخرين. في الشتاء القارص كاد بعض الطلبة أن يموت من شدة البرد وهو في سيارة النقل المدرسي ذات الصندوق الصقيل الأملس بدون مراتب أو فرش واقي!! واغلب الطلبة فقراء لايوجد على أجسادهم الهزيلة إلا ثوباً اغبراً كالتراب معلقا في رقابهم وبدون أحذية - أي والله - وبعضهم خاوياً جائعا فلا يوجد شيء اسمه وجبة إفطار لدى الغالبية وليس في المدرسة مطعما (مقاصف) ولا يوجد مصروفاً. فتح احد الطلبة يوما حقيبة كتبه المصنوعة من قماش ثوب بالي فوجد أن والدته قد وضعت بها قطعة خبز من ذرة ولكنها قد اختلطت بالدفاتر حيث كانت عجين لم ينضج!. من أسوأ المواقف حلاقة شعر الرأس كل شهر تقريبا والحق مع المدرسة نظرا لعدم توفر النظافة لكن المصيبة في طريقة الحلاقة فأما أبناء البادية فغالبا يستخدمون المقص (الجلم ) الخاص بالضأن والماعز واحيانا لاتقبله المدرسة لأنه مضحك وأقرب للتشويه ، أما أبناء الفلاحين والقرى فهم أتعس حالا حيث يستخدمون موس الحلاقة الذي استخدمه الأب لكل شيء عشرات المرات علما بأنه لايحلق شعر رأسه ولا لحيته! مما ينتج عنه عشرات الجروح بفروة الرأس وقد حضر أحدنا يوم السبت ونصف راسه محلوقا شعره في أكثر من جهة والنصف الآخر كما هو بدون حلاقة وكان مضحكا جدا لكل من يراه فاضحكوا قليلاً. الدكاكين التي توفر متطلباتنا هما اثنان فقط الأول دكان أبن سياف وهو الأفضل والثاني دكان أبن عمر شرق لاهمة وهو الأقرب ، ولكن أين الدراهم ؟!!. علما بأن طموحاتنا لاتتجاوز علبة عصير برتقال وبسكويت أبو ميزان أو ابن عمه على طلبك. لا أحد يعير الطالب أي اهتمام أو رعاية إنسانية حتى الآباء كانت حميرهم أهم وربما أحب وأكثر منفعة في نظرهم من الابن طالب المدرسة!!. أحد الزملاء حاليا وهو من المتفوقين دائما ويحاول أن يخفف عنا حينما تشتد بنا الظروف في العمل يقول انه كان في الصف الرابع وأراد جارهم استعارة حمار أبيه وهو كذلك (الحمار + الابن) لنقل السماد من (الجثوة) إلى المزرعة فقال الأب أما ناصر فجعله فداك وأما الحمار فوالله ما يباريك!! ياحظك ياحمار!! (قطع بطوننا من الضحك بهذا الموقف وفقه الله). (ناصر اسم مستعار). جاء المدد وانضم إلى المدرسة المزيد من المعلمين فأصبح هناك توازنا بين معلمي بلاد الشام والكنانة وكان مستوى بعضهم ضعيفا وفيهم غباء وكان بعضنا لايعرف حاصل ضرب الرقم واحد في نفسه لأسباب غير القدرات الذهنية والاستيعاب وبعد إجراء الاختبار يقوم العريف بجمع الأوراق ليصححها المعلم مباشرة ثم يعيدها فورا للطلاب ويقوم هو بقراءة الاسم من الكشف والطالب يعطيه نتيجته!! بعض الطلبة لم يحل أصلا ولم يقدم ورقة الاختبار للمعلم ومع ذلك يعطي المعلم درجة النجاح الصغرى فيرصدها الأفندم!!. كنا نحن الطلبة مصدر إزعاجا دائما لجيران المدرسة ونتجول حول بيوتهم ونهدد بيئتهم الصحية ويصلهم إزعاج الصرف الغير صحي والغير إنساني ، وكانت شيمتهم الصبر فأخذنا منهم حسن الجيرة والتسامح شكر الله لهم وجزاهم الجنة. (صدقتوا بالصرف الصحي ؟). تطور آخر حدث ونحن في منتصف الصف الثالث فقد جاء قرار افتتاح مدرسة ابتدائية أخرى في طريب إنها مدرسة مشروفة الابتدائية (عبدالله بن رواحة حاليا) حيث انفصل مباشرة جزء من المدرسة وانتقلنا إلى هناك وكان معنا المعلم الذي وصل للتو واسمه ابو مهند /محمد علي محمود العبدالله. يعرفه الكثير، حاليا هو مختار قرية في الضفة الغربية حسب ماسمعت. بُني وفقك الله أعلم انك لن تطلع على هذا الكلام حاليا فان قدر الله لك أن تقرأه يوما من آرشيف صحيفة طريب فأعلم أنه بالشكر تدوم النعم وعليك بتحطيم الحواجز والصعود نحو العلا بالعلم وبالعلم وحده فقط وأقرأ باسم ربك الذي خلق. أما نحن فعزاؤنا لأنفسنا أن نقول لها أن الشدائد تصنع الرجال!!! وأعلم بُني أنه كان فينا ونحن تلاميذ علماء ونابغين وقادة ومفكرين ولكن البيت والمجتمع والمدرسة لم تحترم عقول كثير منا فاغتالت الأمل وحطمت الطموح قبل المدرسة وفيها وبعدها فلا نحملها كل شيء، وتبقى أنت أملنا فلا تسمح بسحقنا مرتين. عبدالله العابسي